التشكيل يستفيد من القيم الدلالية والجمالية للحرف العربي

أ. محمد ولد محمد سالم

حضور النحت المعتمد على الحرف العربي في مهرجانات وملتقيات الخط والبيناليات الفنية التي تقام في مختلف أنحاء الوطن العربي لا تخطئه العين، فقد أصبح هذا اللون من الفن الذي يجمع بين النحت والخط رائجاً في أوساط الفنانين العرب، والحروفيين منهم بشكل خاص، كجزء من التجارب التي لا يزالون يقومون بها، بحثاً عن الجديد والمدهش في عالم الفنون التشكيلية، وسعياً إلى إثراء جماليات الحرف العربي بتجريده ومزجه بعوالم فنية أخرى ظلت إلى وقت قريب بعيدة عنه، وهو بعيد عنها .
لا يزال الجدل قائماً حول مدى مشروعية اعتبار الحروفية جزءاً من فن الخط العربي، ولا تزال الدعوة إلى ذلك تلقى معارضة قوية من فناني الخط العربي الكلاسيكي الذين يرون أن مزج الخط بفنون أخرى وتفكيك الجملة الخطية لمصلحة حرف عائم في الهواء، وتطعيم هذا الحرف بتشكيلات وتلوينات معينة، يفقد هذا الحرف أصالته الخطية المرتبطة به التي لن يجدها خارج انتظامه في نسق من الحروف المتواشجة لصناعة كلمات وجمل ذات دلالة قيمية، روحية وإنسانية، فخارج هذه النسقية ذات البعدين الشكلي والمعنوي لا تقوم لفن الخط العربي قائمة، وهي نسقية قادرة باستمرار على توليد أبنية جمالية لا متناهية، حتى في النص الواحد، فزاوية النظر والفهم، وما توحي به الدلالة لكل فنان على حدة، والمشاعر التي تحركها في داخله عند معاينة النص تختلف باختلاف الفنانين ما يولد رؤى وتراكيب متعددة للنص الواحد .
على أن تلك المعارضة وما تبديه من حجج لها وجاهتها، لم تقف في وجه مسيرة فناني الحروفية، الذين لم يلقِ أغلبهم بالاً إلى هوية الفن الذي يمارسه، ولم يهتمّ باستزراعه في حقل الخط العربي، بل إن طائفة غير قليلة منهم مهتمة بالانتماء لفن التشكيل والرسم بشكل خاص وتحقيق التواصل معه بوشائج قوية، وهو ما يفسر كون أغلب الذين مارسوا الحروفية هم في الأصل فنانون تشكيليون، مارسوا فنون الرسم وغيره لفترة طويلة، ثم استلهموا الحروف في إطار سعيهم للبحث عن الجديد الذي يرتبط بالأصالة والخصوصية، ولا جدال في أن الحرف يحقق هذا الارتباط، لكن مسيرة الحروفية التجديدية لم تتوقف عند فن الرسم، بل اتجهت في فترة لاحقة إلى تجريب إمكانات الحرف في مجال النحت، وذلك منذ تسعينات القرن الماضي، واستندت رؤاهم إلى أن الخط العربي أنجز في القرون الماضية إبداعات فنية تقترب من فن النحت، خصوصاً عندما كان يتخذ كتقنية فنية من تقنيات الزينة العمرانية، فقد كان النقش على الجدارن نوعاً من النحت لأن الحرف فيه يتجسم ويصبح ذا أبعاد ثلاثية، والنحت هو فن تجسيم الرؤى والأفكار، وإعطائها حيزًا فيزيائياً فنياً، ومن هنا فإن على الفنان المعاصر أن يواصل هذا الاتجاه ليحقق الأصالة والحداثة معاً، لكنّ هناك فارقاً واضحاً بين تراث النقش، وإنجازات عدد من ممارسي نحت الخط، حيث اقتضى الولوج إلى عالم النحت تحرير الحروف من الارتباط بالسطح واعتبار الحرف نفسه أو الكلمة شكلا قابلا للتجسيم في الفضاء الحر، دون الارتباط بالجدار أو اللوحة أو أي سطح آخر .
يمكن اليوم حصر ثلاثة اتجاهات في مجال نحت الحروف، أولها ينطلق من الحروفية باعتبارها تشكيلاً فنياً، يقوم على اختراع علاقات هيكلية بين الحروف، فلا ضرورة للكلمة أو الجملة في الحروفية، لكنّ الحرف وما يمكن أن يجمعه بأخيه من أشكال هندسية، وما يمكن أن يضفيه عليه اللون والضوء من إضافة، ذلك الحرف هو الأساس، ومن هنا كان الانتقال من الحروفية إلى النحت نقلا للتجارب البنائية والتشابكات الهندسية الخطية من اللوحة الحروفية إلى المنحوتة المجسمة الحرة، وهكذا ظهرت منحوتات حروفية من الصلب والنحاس والجبس، ومن أشهر رواد هذا الاتجاه فنان الحروفية التونسي نجا المهداوي الذي قدم منحوتات فنية حروفية عرضت في أنحاء عديدة من العالم منها تونس وإيطاليا وألمانيا والسعودية .
الاتجاه الثاني قادم من تقاليد فن الخط التقليدي ويعتد بدور القيمة الدلالية الكامنة في الكلمة والعبارة والجملة في إضافة جمالية روحانية وإنسانية على العمل الخطي، ولهذا جاءت منحوتات أصحابه على شكل جمل وعبارات، ومن الذين جربوا هذا الاتجاه الخطاط العراقي إياد الحسيني الذي قدم منذ أواخر التسعينات أعمالاً نحتية بدأها بالنحت البارز على أسطح جبسية ثم طورها في اتجاه تحرير الكلمات والجمل وجعلها منحوتات مستقلة، وكذلك نذكر في هذا الاتجاه تجارب الفنان السوري سامي برهان الذي له منحوتات في إيطاليا والسعودية على شكل كلمات مثل (سلام، شافي، السلام عليكم) .
الاتجاه الثالث قدم أصحابه من عالم النحت، ونظروا إلى الحرف المجرد عن كل سطح أو تشكيل فني أو ارتباط دلالي، باعتباره شكلا قابلا للنحت، فتوازن أجزائه، وأطواله وحجم كتلته، كل ذلك يمثل لغة بصرية يستطيع الفنان أن يصنع منها منحوتة مثيرة ومدهشة، ويعد النحات السوري عاصم الباشا من أهم من مارسوا هذا التجربة، فقد أنجز أعمالاً على الحرف المجرد، جرب فيها جميع الحروف، متلمساً جمالية، منطلقاً من حركتها الخارجية، الظاهرة في تشكيلاتها، ساعياً إلى شحنها بطاقة الكمون والحركة الداخلية كما عبر عن ذلك في مناسبات عديدة .

الخليج