العيد في اللغة والشعر .. شكوى الحال والمآل

أ. دوان موسى الزبيدي

مع اقتراب عيد الأضحى المبارك ساقتني نفسي إلى  استجلاء  معاني العيد في لغتي الجميلة فوجدتها تستجمع الأفراح ، لكن الحال تأبى إلا بالوقوف على ما قاله بعض الشعراء في العيد من زاوية الأتراح....
قال الخليل: "والعيد كلُّ يوم مجمع، من عاد يعود إليه  . ويقال: بل سُمّي لأنّهم اعتادوه، والياء في العيد أصلها الواو قُلبت لكسرة العين ... وإذا جمعوه قالوا: أعياد، وإذا صغّروه قالوا: عُيَيْد، وتركوه على التغيير، والعيد يذكّّر ويؤنث"
وقيل: لم يجمعوه على أعواد للفرق بينه ،وبين أعواد الخشب . وقال‌ في‌ أصل‌ المادّة‌: عَادَ إلی‌ كَذَا يَعُودُ عَوْداً وَعَوْدَةً وَمعاداً، وقيل‌: عاد بعد الإعراض‌ والانصراف‌.
وقال ابن الأعرابي: "سمّي عيدًا لأنّه يعود كلّ سنة بفرح متجدد"
وقال الأزهريّ:"وقد عيَّدوا، أي: شهدوا العيد".
ذلك‌ أنّ كلمة‌ العيد من‌ عَوَدَ بمعني‌ عاد. وقال‌ في‌ "أقرب‌ الموارد": العيد: الموسم‌، وكلّ يوم‌ فيه‌ جمع‌ ،أو تذكار لذي‌ فضل‌، وقيل‌: حادثة‌ مهمّة‌. وقال‌ ابن‌ الاعرابي‌ّ: لا نّه‌ يعود كلّ سنة‌ بفرح‌ مجدّد.
وورد هذا الكلام‌ أيضاً في‌ "صحاح‌ اللُّغَة‌" و «المِصْباح‌ المنير». وأضاف‌ في‌ "المصباح‌" قوله‌: عَيّدتُ تَعييداً، أي‌: شهدت‌ العيد.
  وبعد أن‌ علمنا معني‌ العيد في‌ اللغة‌، ننتقل‌ إلی‌ معناه‌ المصطلَح‌ علیه‌ عند الناس‌ والطوائف‌ والمِلَل‌ والنِّحَل‌. فبأي‌ّ معني‌ يستعمل‌ هؤلاء كلمة‌ العيد؟ ونقول‌ توضيحاً لهذا المطلب‌: إنّ هناك‌ شيئاً خاصّاً له‌ أهمّيّته‌ عند كلّ طائفة‌ وجماعة‌، وكلّ شعب‌، ومذهب‌ مثل‌ الذكري‌ السنويّة‌ لواقعة‌ وحادثة‌ ما إذ تتجدّد في‌ كلّ سنة‌ من‌ أجل‌ تكريمها والإشادة‌ بروحها ومعناها، ويعيشون‌ الفرح‌ والسرور في‌ الاحتفال‌ بتلك‌ الواقعة‌. و علی‌ الرغم‌ من‌ أنّ الواقعة‌ المذكورة‌ قد مضت‌، بَيدَ أ نّهم‌ يقتربون‌ إلیها بأرواحهم‌ من‌ خلال‌ تخليدها وإحياء ذكرياتها العالقة‌ في‌ الأذهان‌، ويمتّعون‌ بذلك‌ أنفسهم‌.
وما دام الفرح مأخوذًا في معنى العيد، فمن الضروري الوقوف على معناه ودلالته اللغوية كذلك، لأنه قد ورد في القرآن الكريم في مقام الذمّ والباطل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، وقوله تعالى: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.

وورد في القرآن الكريم كذلك في مقام المدح والحق والرضا، كما في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، وقوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وقوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، وقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}..
فالفرح، الذي يعني الانبساط والانفراج وبهجة القلب ولذّته, يختلف مدحًا وذمًّا باختلاف مقتضياته ودواعيه.
وبعبارة أخرى, معنى الفرح واحد, ولكنّ أفراده ومصاديقه هي التي تختلف باختلاف دوافعها, فيتّصف بالمدح والحق تارة, وبالذم والباطل أخرى، وليس مذمومًا بنفسه، كما ربما يَتوهم بعضهم أنّ الإيمان أو التدين ملازمٌ للعبوس والحزن وأشباه ذلك.
لا ..فشكل العيد عند العرب مناسبة يبثون فيها أفراحهم ويطردون أتراحهم، ويمارسون من خلاله إسقاطاتهم، يحدث ذلك على الرغم من  أن الحزن هو سمة العرب، فالشاعر العربي يبدأ قصائده بمطلع مأتمي، يقف على الطلل، ويبكي الأحبة،ويشكو سوء الحال والمآل،والمتنبي قبل أكثر من ألف عام أطلق بيته الشهير: «عيد بأية حال عدت يا عيد»، باثا أحزانه ومعاناته بعد أن تبخرت كل آماله..

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ

فَلَيتَ دونَكَ بِيدا دونَهَا بِيدُ

لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا

وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرداءُ قَيْدودُ

وَكَان أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً

أشْبَاه رَوْنَقِه الغِيدُ الأمَاليدُ

لم يترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي

شَيْئا تُتَيّمُه عَين وَلا جِيدُ

يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما

أمْ في كُؤوسِكُمَا هم وَتَسهيدُ؟

أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني

هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ

إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّون صَافِيَةً

وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ

ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ

أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْه مَحْسُودُ

أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِنا ويدا

أنَا الغَنيّ وَأمْوَالي المَوَاعِيدُ

وجاءت هذه الأبيات حاملة هموم كل  أصحاب المعاناة أو المغتربين خارج الوطن، معبرين فيها عن اشتياقهم للعيد داخل بلادهم ومع أهلهم وأحبتهم، لكن بعد المسافة والارتباط العملي أو الدراسي حال دون تحقيق ذلك، أو أولئك الذين يمرون بظروف مرضية أو ضائقة مالية ويرون في العيد تجديدا لأحزانهم ومعاناتهم.
أما الرصافي فقد تذكر الأيتام وذكر بهم في قصيدة جاءت في سياق قصة شعرية مليئة بصور تحكي معاناة ومآسي الأيتام ووجد الشاعر العيد فرصة ليبثها ومنها :
خرجت بعيد النحر صبحا فلاح لـي
مسارح للأضداد فيهن مرتع
خرجت وقرص الشمس قد ذَرّ شارقا
ترى النور سيّالا بـه يتدفّع

بحيث تسير الناس كلٌ لِوِجهـةٍ

فهذا علـى رِسل وذلـك مُسرع

وبعض له أنف أش-ُّ من الغنى

وبعض له أنف من الفقر أجدع

وفي الحيّ مزمار لمُشجي نَعِيره

غدا الطبـل في درادابـه يتقعقع

فجئت وجوفَ الطبل يرغو وحولـه

شبـاب وولـدان عليه تجمعوا

لقد وقفوا والطبـل يهتزّ صوته

فتهتزّ بالأبـدان سوق وأكرُع

ترى مَيْعة الأطراب والطبـل هـادر

تفيض وفي أعصابهم تتميَّع

فقد كانت الأفراح تفتح بابهـا

لمن كان حول الطبل والطبـل يقرع

وقفت أجيل الطرف فيهم فراعني

هناك صبـيّ بينهم مترعرع

صبيّ صبيح الوجه أسمر شاحب

نحيف المباني أدعج العين أنزع

يَزيِن حجاجَيْه اتساع جبينه

وفي عينه بـرق الفَطانة يلمع

عليه دريس يَعضِر اليُتم رُدْنه

فيقطرُ فقر من حواشيه مُدقع

يُلـيح بـوجه للكآبـة فوقه

غُبار به هبـت من اليتم زَعزَع

على كثر قرع الطبـل تلقاه واجما

كأن لم يكن للطبـل ثَمةَ مَقرع

كأن هدير الطبـل يقرع سمعه

فلم يلـفِ رجعا للجواب فيرجع

يردّ ابتسام الواقفين بحسرة

تكاد لـهـا أحشاؤه تتقطع

ويرسل من عينيه نظرة مُجهـشٍ

وما هو بالباكي ولا العين تدمع

لـه رجفة تنتابـه وهـو واقف

على جانب والجوّ بالبـرد يلسع

يرى حوله الكاسين من حيث لم يجد

على البـرد من بـرد بـه يتلفّع
وغير بعيد عن ذلك، فإن بعض الرسائل التي يتم تداولها أيام العيد تحمل أبياتا للمعتمد بن عباد حاكم قرطبة قالها يوم العيد وهو في سجن «أغامات» في المغرب بعد أن اكتوى بنار نزاعات حكام الطوائف والصراع بين حكامها ليلقي زعيم الموحدين يوسف بن تاشفين القبض على ابن عباد ويودعه السجن، فيتذكر بناته في العيد
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً
في لبسهن رأيت الفقر مسطورا
معاشهن بعيد العزّ ممتهنٌ
يغزلن للناس لا يملكن قمطيرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
عيونهن فعاد القلب موتورا
قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً
أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةً
تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا
قد لوّثت بيد الأقذاء واتسخت
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
لا خدّ إلا ويشكو الجدب ظاهره
وقبل كان بماء الورد مغمورا
لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ
وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ
فردّك الدهر منهيا ومأمورا
من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به
أو بات يهنأ باللذات مسرورا
فإنما بات فـي الأحـلام مغـرورا