|

نقْحَرة تحت النار
أ. سهيل الخالدي
لاشك بأن لفظ نقحرة غير صالح كعنوان لمقالة صحفية كهذه، لكن المقام أوجب المقال، فليصبر علي قارئي الكريم حتى أقول له:
لقد أفنى رجال عرب مثقفون ومناضلون أعمارهم وهم يدافعون عن اللغة العربية ويقولون إن لا تنمية ولا أمن ولا أمان لهذه الأمة بغير لغتها، فاعتبرهم الساسة والإدارات العربية مشرقيها ومغربيها هراطقة وهمشت بعضهم تهميشا وهشمت بعضا آخر تهشيما.
ومن أمثال هؤلاء المناضلين المهمشين في الجزائر أستاذنا عثمان سعدي أول عربي درس دور اللغة في تنمية اليابان.. وطالب أن تكون العربية أداة التنمية في الوطن العربي وخاصة في الجزائر.. لكن لا أحد اهتم، ففشلت التنمية في الجزائر ودخلنا في مرحلة الإرهاب وانعدام الأمن التي تعلمون.
ومن سوء حظي في مرحلة التسعينيات الرهيبة تلك التي حوّل فيها قصر الشعب و"شالياته" إلى مقرات للجمعيات التي بدأت تنشأ، أحببت أن أزور "جمعية الدفاع عن اللغة العربية" التي أسسها عثمان سعدي، فلما ذهبت تصادف ذلك مع مشاهدتي لقوم يكسرون باب ذلك "الشاليه" الخشبي البسيط ويلقون بأوراق وكتب الجمعية تتقاذفها الرياح، فاتصلت بأحد مساعدي الدكتور سعدي ومنذ ذلك اليوم نقل الرجل الجمعية إلى بيته، فالذي يطالب بتنمية وأمن أمة غير آمن على أوراقه؟ بل إن سعدي رُفعت ضده دعاوى في المحاكم كان لي شرف أن أكون من أوائل الذين فضحوها في الأعلام العربي.
* رغم أن المبارك أصدر كتابه "نحو وعي لغوي" قبل ستين عاما ورغم أن الجنيدي خليفة أصدر كتابه "نحو عربية أفضل" قبل نحو أربعين عاما.. ومع ذلك فإننا نرحب بهذا الوعي اللغوي المتأخر لدى إداراتنا مشرقا ومغربا حتى ولو كان وعيا عبر النقحرة.
وعثمان سعدي مثال يعرفه القراء في الجزائر لكن في البلاد العربية رجال كثر وقفوا مواقف سعدي وعانوا ما يعاني، فالمسدي في تونس الذي اتبع كتابه انتحار العرب اللغوي بكتاب عن الأمن اللغوي العربي، ومازن المبارك في سوريا الذي رفض مقولة خطأ مشهور خير من صواب مهجور واعتبرها مقولة تدميرية ودافع عن العربية في المحافل الدولية وخاصة الحوار العربي الأوروبي وغيرهم من الذين طالبوا بتصحيح الكتابة العربية من جهة وبالأمن اللغوي كجزء من الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ولم يلتفت إليهم أحد.
ومعروف أن الدول العربية تعاني أمنيا في كتابة الوثائق السيادية، ووصلت هذه المعاناة إلى حد الخطورة.. لكن أحدا لم يبحث عن علاج.. ومنذ بداية ما يسمى الربيع العربي اكتشفت الدول الكبرى أن اسم القذافي يرسم باللغات الأجنبية وبالعربية بعدة اشكال، فهو القدافي -بالدال- وهو القذافي -بالذال- بل يكتب أيضا بالزاي القزافي، وهناك ظاهر الذي يكتب ويلفظ ضاهر أو زاهر، وهناك جاسم الذي يكتب بالقاف، وتكتب القاف كافاً فارسية بإشارة فوقها وكان ابن خلدون قد اكتشف اختلاف نطق القاف في المغرب العربي واسماها القاف البربرية واقترح أن تكتب كافا بنقطة تحتها. وهكذا يكون ابن خلدون قد تنبّه إلى ما في لغتنا من اختلاف بين المكتوب والمنطوق على ضآلته واقترح معالجته، كما يكون سعدي والمبارك والمسدي ومصطفى جواد قد تنبهوا ونبهوا قبل عقود إلى أهمية اللغة أمنيا وتنمويا فلابد من توحيد الكتابة سواء الأسماء أو غيرها فالتنمية لا تقبل التجزئة ولا يمكن بناء مصنع وطمس لغة عامله.
ولعل القارئ الكريم - وأنا أشكر صبره عليّ- تبين أن النقحرة تعني كتابة الحروف الأجنبية التي ليس لها أصوات بالعربية أو الحروف العربية التي ليس لها أصوات باللغات الأجنبية.
وهكذا حتى لا ينجح الإرهابيون من "داعش" وغيرها في تضليل واشنطن وغيرها حتى دون أن يرتكبوا تزويرا أو تزييفا معتمدين على هذه الفوضى اللغوية والتنموية والسياسية صار لزاما على الإدارة في جميع البلدان العربية أن تلجأ إلى النقحرة .. وبلغة أخرى أن على الإدارات العربية أن تهتم باللغة العربية وتوحد ألفاظها الإدارية وهي تحت النار بعدما أهملت طويلا آراء المعهد العربي للعلوم الإدارية الذي لا يشعر أحد بوجوده، فالإدارة العربية مزاج سياسي وليست علما له قوانينه.
وهذا كله يذكرني بحادثة وقعت للكاتب والطبيب الدكتور محي الدين عميمور في ستينيات القرن الماضي حين رفض أحد جهابذة الفرانكوفون الاعتراف بشهادة تخرجه في كلية الطب التي تسمى في مصر بكالوريوس، وهي تعطى بعد دراسة سبع سنوات في كلية الطب، ذلك أن الجهبذ الفرانكوفوني اعتبرها شهادة بكالوريا أي ثانوية عامة.. ولولا الراحل هواري بومدين لضاعت سنوات الطب على محي الدين عميمور.
ورغم أن المبارك أصدر كتابه "نحو وعي لغوي" قبل ستين عاما ورغم أن الجنيدي خليفة أصدر كتابه "نحو عربية أفضل" قبل نحو أربعين عاما.. ومع ذلك فإننا نرحب بهذا الوعي اللغوي المتأخر لدى إداراتنا مشرقا ومغربا حتى ولو كان وعيا عبر النقحرة.
الشروق
|
|
|
|