|

الهيمنة الثقافية.. وسطوة اللغة
أ. بدر الراشد
تعددت النقاشات حول اللغة وأصولها وحضورها منذ الأزل، ففي المجال العربي، على سبيل المثال، تعددت السجالات حول منشأ اللغات -عموما - وتكوينها: هل علاقة الحروف بمعانيها وأصواتها اعتباطية ووليدة للمصادفة أم أنها توقيفية «وعلم آدم الأسماء كلها»، فهي بمثابة مخلوق من مخلوقات الله؟
هذا الجدل لم يتوقف، بل استمر في العصر الحديث، ولاسيما النصف الثاني من القرن العشرين «التوجه الذي يعرف عادة بحقبة ما بعد الحداثة». حيث تطورت الدراسات اللغوية لتقتحم مجالات متعددة: قراءة التاريخ والسياسة والوعي وعلم الاجتماع وعلم النفس...إلخ فتمت صياغة نظريات مختلفة في هذه التخصصات من منظور الدراسات اللغوية. ربما كانت مسألة علاقة اللغة بالعقل والسلطة من أهم تلك المسائل التي طُرحت في تلك الفترة، لاسيما لارتباط هذه المواضيع بقضايا أساسية في مسائل القومية والهوية والثقافة والعرق، وغيرها، التي اكتسبت أهمية استثنائية بعد الحرب العالمية الثانية، وربما كانت أطروحات ميشال فوكو حول اللغة والسلطة من أهم أطروحات تلك المرحلة، هذه الأطروحات التي أثرت في الدراسات التاريخية والثقافية بشكل رئيس.
يرى اللغويون -وهنا ألخص الفكرة بكثير من الابتسار- أنه عندما تُهيمن لغة ما لأسباب سياسية أو ثقافية -كما هي الحال اليوم مع اللغة الإنكليزية- فإن متحدثي اللغات الأخرى يلجأون إلى التحدث باللغة «المهيمنة» لأحد سببين: إما لتسهيل التواصل والتفاهم بشكل أو بآخر. وإما لكي يكتسب المتحدث بعض «البرستيج» جراء تمثله اللغة «المهيمنة»، فيحاول أن يستعير سطوتها.
أما استخدام اللغة من أجل تسهيل التواصل فيظهر في الأوساط الأكاديمية على سبيل المثال، أو خلال بعض النقاشات الفكرية، التي يضطر أصحابها إلى استخدام لغة أخرى حتى عند الحديث مع أبناء ثقافتهم، بحكم تطور العلوم في هذا المجال أو ذاك. وصعوبة ترجمة بعض المفاهيم والمصطلحات، فيصبح استخدام مصطلح أو عبارة مستعارة من لغة أخرى مهماً؛ لإيضاح فكرة أو سياق.
استمرار هذه الحال تعبير عن فقر علمي أكثر من كونه تعبيراً عن خلل في اللغة، فهناك لغات تم إحياؤها وتطويرها لتصبح ذات حضور علمي مهم، كاللغة العبرية، على رغم أنها لغة حديثة «لا من حيث أصلها وإنما من ناحية إعادة إحيائها»، لكن اللغة العبرية هي مشروع دولة «الكيان الصهيوني»؛ لذا تطورت وقفزت بشكل سريع.
أما السبب الآخر، أي استخدام اللغة المهيمنة من أجل «البرستيج»، فهو محاولة للتماهي مع صاحب الثقافة الغالبة، فيرى من يمارس هذا السلوك أنه بإجادته واستخدامه لغة «الثقافة المهيمنة» قد أصبح جزءاً من تلك الثقافة. ويبدأ يستعير أدوات تفكيره من ذلك السياق، بل تجد حتى انتقاداته لثقافته تنطلق مما يُكتب عنها باللغة الأخرى، لا من خلال ما يراه سلبياً، بمحض إرادته. هنا لا يقتصر الاستلاب على استخدام اللغة، بل يمتد إلى الضعف أمام الثقافة المهيمنة ككل، فيستعير اللغة وطريقة التفكير ورؤية الأشياء، حتى يتحدث المرء وكأنه لا ينتمي إلى أي من الثقافتين «الغالبة والمغلوبة» بل يصبح هجيناً مشوهاً من الاثنتين. لا تقتصر أزمة الهيمنة اللغوية على هذه المسائل، بل تتعداها إلى تجليات أخرى. تصبح «اللغة المهيمنة» ذات سطوة علمية، فالاستشهاد بمقالة كتبت باللغة الإنكليزية عن أمر سياسي حدث في العراق -على سبيل المثال- سيكون أكثر حضوراً وتأثيراً من الاستشهاد بمقالة كُتبت باللغة العربية لدى أصحاب هذه اللغة، حتى وإن كانت المقالة الأخيرة أفضل، باعتبار اللغة الإنكليزية لغة الدول ذات الهيمنة الثقافية والسياسية، فيصبح أصحابها أعلم بنا منا.
تصل الحال ببعضهم إلى تصديق أي شيء يُكتب في الصحافة العالمية، لمجرد اختلاف اللغة، من دون تمييز لتباينات الإعلام العالمي، فكما أن هناك صحفاً رصينة هناك صحف صفراء، وكما أن هناك كُتاباً ذوي صدقية هناك مرتزقة، لكن هذه التباينات تسقط بالنسبة إلى المستلب الذي وقع تحت سلطة الثقافة واللغة المهيمنة.
في كتاب «روح الحداثة» يشير طه عبدالرحمن إلى هذه المسألة بشيء من التفصيل، في سياق الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية، إذ يرى أن أهم اختلاف بين موجة الترجمة التي انطلقت في العصر العباسي، في عهد الخليفة المأمون، وموجة الترجمة إلى العربية اليوم، أن الأولى جاءت في زمن هيمنة للثقافة العربية. فكان المترجم يمتلك سلطة على النص الذي يترجمه، فيستطيع التعاطي مع النص بشكل مستقل وحر، في مقابل أن الترجمة إلى العربية اليوم تتم وسط تراجع للثقافة العربية، وهيمنة ثقافات أخرى عليها، فيصبح موقف المترجم أقرب إلى الاستلاب منه إلى الاستقلال، فالنص الأجنبي يملك سلطة على وعي المترجم، تؤثر في اختياراته وصياغاته، من دون وعي منه.
لا شك في أن تعلم لغات أخرى من أهم ما يمكن للمرء أن يفعله؛ لتطوير نفسه، فتعلم لغة هو معرفة لثقافة، وطرق تفكير، وأفكار، وتاريخ...إلخ. لكن لا يمكن أن يصبح هذا التعلم مفيداً إذا رافقه انبهار وخضوع لسطوة الآخر ولغته وثقافته. وهنا الانبهار والخضوع يختلف عن الإعجاب؛ لأن الانبهار يؤدي إلى الاستلاب الذي يمنع الإنسان من التفكير، ويحوله إلى مجرد متلق سلبي، ينسخ من الآخر، أكثر من كونه يبدع في مجاله وسياقه.
الحياة
|
|
|
|