لا، لم تَتأَنَّ يا معالي وزير الثقافة

أ. صــلاح بوســريف

ثمَّة الكثير، مما جاء في حوار السيد وزير الثقافة الأستاذ محمد الأمين الصبيحي، مع جريدة «المساء»، مما يحتاج للنقاش والرّد، سواء ما تعلَّق، منه بتدير الشَّأن الثَّقافي من قِبَل الوزارة، أو برؤية الوزارة لِما تُسَمِّيه بـالميثاق الوطني للثقافة، أو مسألة علاقة الوزارة بغيرها من القطاعات، أو ما سمَّاه بـ «الأوراش الكبرى»، التي ربَطَها بشخص الملك، لا بما هو من شأن الوزارة، وشأن المثقفين الذين يعنيهم القطاع، وغيره، مما بدا لي أنَّه يحتاج لبعض الاتِّساق في الرؤية، وفي طبيعة النَّظَر التي عادةً ما تكون مبنية على رؤية فكرية، أو سياسة ثقافية واضحة المعالم، وليست مجرد كلام عام، هو نفسُه الذي نسمعه عن القطاع، بنفس اللغة التي هي لغة التَّبرير، أكثر منها لغة تُفيد تشخيص الواقع بالوضوح الكافي، أو الذي لا تختلط فيه الأيديولوجيا التي ينفيها الوزير عن نفسه، بغيرها من الأمور المتعلقة بسياسة الدولة التي هي سياسة لا يعنيها قطاع الثقافة في شيء، أو تعمل على اختراله في تصورٍ وفَهْم، هُما غير ما يصدر عن المثقفين والعاملين في الحقل الثقافي، بكل قطاعاته. نقاش هذه القضايا يحتاج لمساحةٍ ووقتٍ كافِيَيْن، وسأكتفي هنا بالرد على ما يتعلَّق بالنقاش الذي دار حول اللغة العربية، أو الدعوة للتدريس بالعامية. لا تأَنِّيَ يبدو في مُتابَعَة الوزير لِما جرى من نقاش، بل ثمَّة ابْتِسار، واختزال لِما جرى.

فالنقاش، يا معالي الوزير، لم يكن «مغلوطاً من الأساس» ولم يكن خالياً من «النقاش العلمي المؤسس والمسنود»، ولا سجالاً عاطفياً، أو مزايدات أيديولوجية، أو نوع من الديماغوجية التي لا طائل من ورائها. هذا قد يكون حَدَثَ خارج النقاش العلمي، وخارج ما صدر عن مثقفين وكُتَّاب وخبراء، أو مُخْتَصّ]ِين في اللسانيات وعلوم اللغة، وفي علوم التربية، وتدريس اللغات، وهو ما دخَلَتْ فيه أحزابٌ، وتنظيمات سياسية، بينها حزب رئيس الحكومة، ورئيس الحكومة نفسه، الذي ادَّعَيْتَ أنه لا يُقْصِي الرأي الآخر، أو لا يُصادره، فهؤلاء هُم من حوَّروا الموضوع، وأدخلوه في متاهات الدِّين والاعتقاد، في ما أنَّ الموضوع هو موضوع يخرج عن هذا السياق، ويدخل في ما هو أكبر منه بكثير.

فحين نربط اللغة بالهوية، فنحن نعمل على وضع اليد على جوهر المسألة، التي كان فيها اقتراح التدريس بالعامية، هو الطرح الديماغوجي والمغلوط من أساسه، وليس ما صدر عن لسانيين ومفكرين وأدباء وعلماء تربية مغاربة مشهود لهم بالنَّزَاهة الفكرية والعلمية، وبجدية أفكارهم وعمقها، وما راكموه من كتابات، يعرفها المغاربة كما يعرفها غيرهم، ممن يقرأون، ويُتابعون ما يُنْشَر من دراسات لها علاقة بموضوع العربية، أو بتدريس اللغات، وعلى رأسها العربية، التي أصبحت في مرمَى القنَّاصين، ممن يُكِنُّون لها العداء، أو يجهلون قيمتها، وقدرتَها على الإبداع، والحياة.

ما تُسَمِّيه، معالي الوزير، باللغة الوُسْطى، وبتطور الدارجة، هو مغالطة، كلام بعيد عن العلم، وعن الواقع نفسه، وأكتفي بدعوتك لمشاهدة المسلسلات المُدَبْلَجَة في التلفزيون المغربي، لترى المستوى الذي وصلت إليه الدارجة المغربية، التي كانت بين الدوارج العربية القليلة التي بقيت على علاقة بالعربية، بحكم عوامل كثيرة، يمكن سردُها إذا اقتضى الأمر لاحِقاً. فأنا باعتباري إبن منطقة الشَّاوية، ما زلتُ إلى اليوم، حين أذهب إلى البادية وأستمع للحوارات والنقاشات ولكلام الفلاحين والرُّعاة من بُسطاء الناس، أجِدُها عربيةً، في جوهرها، ولهجة غير مُلَوَّثَة، وهؤلاء، أو أبناء هؤلاء، ممن غزاهم التلفزيون، بما يفرضه عليهم وزير الإعلام السيد مصطفى الخلفي من مسلسلات، وبرامج، لُغَتُها هي المُلَوَّثَة، أصبحوا مُهَدَّدِين بعامية مدينة الدار البيضاء، التي هي عامية تخدش السمع والبصر معاً. يكفي معالي الوزير أن تمرُّ بأي شارع من شوارع المدن المغربية الكبرى، التي هي من تتحكَّم في ألسنتنا، وفي أذواقنا، ستجد نفسك مُحاصَراً بهذه الدارجة «الوسطى!» التي ترى أنَّها يمكن أن تكون صالحةً للتدريس، أو أن تدخل المدرسة، ربما، دون أي مشكل، رغم وعيك بالفرق بين دارجة كل منطقة من مناطق المغرب.

أدعوك السيد الوزير لقراءة ما صَدَر عن نُخْبةٍ من المُختصِّين، ومن يهُمُّهُم شأن العربية، التي بها يكتبون ويُبْدِعُون، ويُجَدِّدُون دَمَ الفكر والمعرف والإبداع، لتعرف أنَّ رأيك في الموضوع ناقص، أو مبني على رؤية فيها التباس، وهو، ربما التباس، تفادَيْتَ فيه وضع يدك في عُشّ الدبابير. فلا عيوش ولا بنكيران يعنيهما شأن العربية، التي هي لغة تتطوَّر في الأدب، الذي اتَّهَمَه وزير التعليم العالي، وهو من حزب السيد رئيس الحكومة، بالخطر، واعتبره، غير مُجْدٍ، أوغير مفيد، وتتطور في الفكر، وفي كل أشكال الكتابة الإبداعية التي تَنْأَى المدرسة بنفسها عن الاقتراب منها، لأنَّها لغة فيها جُرْأة، وتحمل فكراً حداثياً متقدماً، وهي لغة حيَّة وحيوية، لا تتبع «نحو» العربية، بالصورة التي يُدَرَّس بها هذا النحو في المدارس المغربية، مِمَّا يُنَفِّر التلاميذ من هذه اللغة، ويخنق حريتها وانطلاقَها، ولا تراكيب لغة الماضي، التي هي جزء مُهمّ من تاريخ هذه اللغة، ومن خيالها، الذي هو خيال ينهض بالفكر، وينهض بالعلم، كما يسمح بتعميم الجمال، ونشر المعرفة.

لا تريد المدرسة، التي هي أسيرة حسابات الدولة، أو الجهات النَّافذة في الدولة، أن تخرج من وعيها التقليدي المحافظ، الذي يكرس فكراً وثقافةً ومعرفةً وتاريخاً، هي غير الفكر والمعرفة والثقافة والتاريخ، كما يذهب إليها الإنسان اليوم، في ما يُعْرَف بمجتمعات العلم والمعرفة، وفي ضوء ما يحدث من تطور في المفاهيم، ومناهج التدريس والتقويم. فالعربية ليست هي مربط الخلل، الخلل يوجد في تعطيل الدولة لهذه اللغة، وفي تهجينها، انظر خطابات رئيس الحكومة، فهي كلها بالعامية، وهي عامية فيها كثير من الخلل، وأبدأ من الخلل الدستوري. فحين تصبح لغة الخطاب في البرلمان، وفي ما يتعلَّق بالشأن الحكومي، لغة عامية، لا عربية فيها، إلاَّ ما نجا من التدريج بالخطأ، فهذا، يامعالي وزير الثقافة، استهتار بالدستور، وبالقيم الفكرية والثقافية للناس، في مقابل شعبويةٍ، ما زالت تعتبر المغاربة قاصرين، ولا يعرفون من يُزَايد عليهم، مقابل شَهْوَة السلطة والحُكم.

فبنكيران لا يقوم بالوعظ في مسجد، أو حفل عقيقةٍ، أو خِتانٍ، ليتكلَّم بهذه الطريقة، ويسمح، بصورة أو بأخرى، لعيوش أن يَتَمَنَّى لو أنَّ الملك استعمل الدارجةَ في خطاباته، فهو رئيس حكومة، دستورها يعتبر العربية، إلى جانب الأمازيغية، اللغة الرسمية للبلاد. فلذلك، إذا كان ثمَّة من يُغالِط في النقاش حول العربية، فهو أنت السيد الوزير، لأنَّك لم تتأنَّ في معرفة كل ما كُتِب وقيل، وما طُرِح من أفكار. فلا يجوز أن نُصادِرَ أفكار كتاب وعلماء ومفكرين، لنظهر بمظهر «وزير الثقافة» بما يحمله هذا المعنى من وصاية. فالسيد بنكيران، الذي يتفادى الكلام بالعربية، ومصطفى الخلفي، الذي يسمح بعرض السخافات على المغاربة، ووزير التعليم العالي الذي يحتقر الأدب، ويعتبره خطراً على البلاد، هؤلاء، وغيرهم من الأحزاب التي ناقشت الموضوع، هُم من زايدوا على العربية، وركبو القطار وهو يسير، وليس من الفكر والبحث والإبداع، عملهم اليومي، والهواء الذي يحيون به خارج وصاية الدولة، أو أيٍّ كان.

إننا سنظل، كمثقفين، ومبدعين، وباحثين، ومفكرين، وعلماء في اللغة، وفي علوم التربية، خارج اهتمام الدولة، ونقول ما نقولة دون أن نجد من يقرأنا بتأَنٍّ، أو باهتمام، أو يفهم ما نتوخَّاه، في ما هو في صالح هذه الأمة التي تعيش تعثُّراتٍ، وكَبَواتٍ لا حَصْرَ لها. يكفي أن تنظر لتشكيل المجلس الأعلى للتعليم، لتعرف كيف تجري الأمور، خارج العلم والمعرفة، وخارج العربية نفسها التي هي لغة أمة، وليست لغة شعب دون غيره، من الشعوب العربية، كما أنها لغة إبداع وخلق، حين نكون قارئين لها عند من يبتكرون فيها، ويعملون على تجديدها، من خارج المؤسسات الرسمية، التي تعيش أزمة معرفة حقيقية، وأزمة فكر، وهذه هي معضلة ما يجري عندنا، سواء في التعليم، أو في الثقافة، أو تدبير شأن الناس، ومعاشِهِم، أعني قوتهم اليومي.

هسبريس