في تحرير لغتنا

أ. نجوى بركات

كيف لا تقول لغتنا ما ينبغي لها أن تقوله، ولماذا؟ كيف تُشطب كلماتها، وتُختصر أفعالها، وتُحرَّف معانيها، فتصير لغـةً معطوبة، عرجاء، تتأتئ وتتلعثم، بدل أن تقول، تدور وتلفّ وتتحايل، حين ينبغي لها، وبكل بساطة، أن تسمّي الأشياء بأسمائها.

فإلى جانب أن براءة اختراع أيّ شيء قد سُحبت منها، منذ دهر سحيق، أي منذ أن كفّ العربُ عن أن يكونوا مبدعين ومبتكرين في أي مجالٍ كان، فقد بات عليها، أيضاً، أن تجد مسمّياتٍ لأغراضٍ وابتكاراتٍ لا تواكب اختراعَها، لا تعرف شيئاً عن حيثيات عملها، ولا تفقه حتى أصول أو مفاعيل استهلاكها.

هي هنا وحسب، وعليها التعامل مع هذا الجديد الهابط عليها من سماء العالم الآخر، كل ثانية تقريباً. هذا ما يجعلها تفسح المجال، أحيانا كثيرة، لكلماتٍ أجنبية تهطل عليها من كل حدب وصوب، فتلتقط منها ما تستطيع التقاطه، وتعالجه بما توفّر، فتحسّن لفظه، أو تعرّب بعض مخارجه، أو تبقيه كما هو، مطبّقـةً عليه قواعد الجمع أوالمثنى أو الإعراب. هكذا نجمع، مثلاً، في لغة الفيسبوك "لايك فتصبح لايكات"، أو نصرّف فعل حفظ في لغة الكومبيوتر فيصير "سيَّف وسيَّفت"، إلخ.

إلا أن ما يبقى عصياً على الفهم، وما يستدعي اليوم هذا الكلام، فهو تقويل اللغة العربية أشياء لا حيلة لها بها، في حين أنها قادرة، لا بل أكثر من قادرة، على قولها بكل دقة وإبداع. هكذا مثلاً، يُصار إلى اختراع معانٍ جديدة تحيّد الكلمات عن معناها الأصليّ، الحقيقيّ، لتذيّلها بأخرى تَنسُب لها ما لا يمتّ إليها بصلة، لا من قريب ولا من بعيد.

لا يختلف اثنان على أن الأمة العربية، قاطبة، تعيش أمام شاشتها الصغيرة ردحاً يسيراً من نهارها، وأن ما تبثه أجهزة التلفزيون هو ما "يُثري" عقول صغارنا وكبارنا على السواء، أثريائنا وفقرائنا، متعلّمينا وأميّينا، لا بل إنه يكاد يكون المصدر الأهم، إن لم يكون الأوحد، لمعارفنا ومعلوماتنا. لكنّ معظم التلفزيونات العربية، حين يلعب دوره كنافذة على العالم، تراه يسدل الستائر عليها، ثم يمسمرها بألف لوحٍ ولوح، حتى لا يتسنّى لمُشاهده أن يتمتّع بالرؤية كاملة.

فما الذي يجعل كل الشتائم التي تقال في الأفلام الأجنبية مثلا، تصبح "تبّا"؟ وما الذي يحوّل كلمة الله أو الرب أو الإله إلى "القدَر"؟ وما الذي يقطع كلّ القبل والمشاهد الجنسية، في حين يصبح "المثـليّ" في الترجمة المرافقة "مضطربا"، وغير المثـليّ "سويّا"؟
مثل هذه السلوكيات يقول الكثير عن ثقافتنا الآيلة إلى الزوال، وعن أحوالنا "المضطربة".

فالتلفزيونات الأجنبية، مثلاً، وجدت الحل في رموزٍ تعتمدها، وتشير إلى أية فئة من الأعمار، أو إلى أي جمهور يتوجّه هذا الفيلم، وعلى من تُحظر مشاهدته.

كنت، حين أشاهد برنامجاً أجنبياً يتبادل خلاله الناس ألفاظاً تعتبر في قاموسنا نحن، "نابية"، أبقى منشغلة بكيفية نقله إلى إطار عربي، وترجمة ما يقال فيه بلغة الضاد. وقد كان تمريناً قاسياً، محبطاً، ينتهي بانسحابي، خائبة، من هذه اللعبة، لإدراكي أننا، أبدا، لن نحرّر لغتنا، الحرّة أصلاً، وسنبقى نزيد إلى ما يكبّلها، سلاسلَ وأقفالاً، ظناً منا أننا نحافظ على أخلاقها، على "شرفها"، متناسين أن القمع اليومي الذي يمارس بحقّنا منذ عقود، مضافة إليه، اليوم، مشاهد العنف التي لا تطاق من ذبح وتنكيل وتعذيب، وما يصحبها من خطابٍ كارهٍ وحاقد وظلامي، لهي أكثر إباحية، بأزمنة، من كلمةٍ "نابية"، وإنما "بريئة"، إذ تقال في مكانها الصحيح.

الإباحية هي ألا تُسمّى الأشياء بأسمائها، تهيّباً، أو ترهيباً وتعنّتاً وتسلّطاً. لذا، كفّـوا أيديكم عن لغتنا، ودعوها، هي على الأقل، تبقى حرّة، فلم يبق لنا سواها وسط كل هذا الخواء.

العربي الجديد