بين التقعّر والتهاون

أ. منى عبد الفتاح

 تقع على عاتق الآداب والفنون على مرّ الزمان مهام تنقية الأجواء التي تكدرها ظروف الحياة والواقع المرّ. ففي قول الكاتب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل غوستاف لوكليزيو في «مهرجان الشعر الكوني» المنعقد في مدينة قرطبة جنوب إسبانيا، أوائل أكتوبر الحالي: «التبادل الثقافي هو الطريقة الوحيدة للتعايش»، دعوة لجيل الشباب الجديد بضرورة التلاقح الثقافي.

كما ظهر تعبير «غموض الأدب»، هذا الذي يرفع الشعراء إلى حالة الصفاء والذي يقول فيه أيضاً: «في زمن صعب جداً، الأدب يفتح طريقاً بين الناس، وهذا يحدث في كل مكان، وبنفس الدرجة، أياً كان المكان أو الظرف الاجتماعي، وهذا ما تعلمته في ترحالي».
وعلى عكس غوستاف لوكليزو، الذي اتخذ من عدم تعقيد اللغة وسيلة للتنوير، تعمل بعض الكتابات الثقافية على جعل التقعّر في اللغة أساساً لرسالتها المخاطبة لجمهور المتلقين. وحال هؤلاء كحال الطبيب مع أبي علقمة النحوي وقصتهما الشهيرة حيث يحكى عن أبي علقمة النحوي وهو من المتقعرين في اللغة واستعمال غريب الكلام واللفظ، أنه دخل إلى طبيب فقال: «إني أكلت من لحوم هذه الجوازل فطسئت طسأة فأصابني وجع بين الوابلة إلى أدية العنق، فلم يزل يربو وينمى حتى خالط الخلب فألمت له الشراسف فهل عندك دواء؟». فقال له الطبيب: «خذ خربقاً وشلفقاً وشبرقاً، فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روثٍ وأشربه بماء الماء». فقال أبو علقمة: «أعد علي ويحك، فإني لم أفهم شيئاً. فقال له الطبيب: لعن الله أقلّنا إفهاماً لصاحبه، وهل فهمت منك شيئاً مما قلت!».
وليس المثقفون وحدهم فهناك جهات ومؤسسات رسمية ترتبط بعامة الناس بشكل كبير، تعهد بعض هذه الجهات بإعلاناتها ومخاطبتها للجمهور إلى أشخاص يعتقدون أنّهم بتقعرهم في اللغة فإنّهم يقدّمون أفضل ما لديهم، لمؤسساتهم. وبما أنّ الحملات الإعلامية في الخدمات والعلاقات العامة موجهة إلى كافة شرائح المجتمع المختلفة وأغلبهم من غمار الناس وعامتهم، فإنّه من الأوفق أن تحمل في طياتها رسالة بسيطة التركيب اللغوي يفهمها الجميع حتى لو أبقت على الحد الأدنى من اللغة السليمة. وهذه على عكس المحلات التجارية التي تعهد بطباعة لوحاتها مثلاً إلى عمّال ليس لديهم أدنى معرفة باللغة العربية، وهذا ما نراه في الكتابة الكارثية على مداخل المحلات التجارية المكتوبة بحروف عربية ولغة ركيكة وترجمة أكثر ركاكة. وهذه هي مسؤولية أصحاب المحلات في المقام الأول، على أن تكون هناك رقابة من البلديات لما تعكسه هذه اللوحات من أبجديات المظهر العام.
وبالرغم من أنّ الفرق كبير بين الكتابات التوعوية والتثقيفية وبين اللوحات التعريفية والإرشادية، إلّا أنّ التجويد في كلٍّ مطلوب بشكل كبير. فالكتابات التوعوية يكون طابعها التثقيف وإشاعة المعرفة بالمحافظة على وسيلة تعبير تناسب الجهة المستهدفة، أمّا اللوحات التي تحمل أسماء المحلات وتعرّف بها فالمطلوب منها الإيجاز والبساطة وقصر الرسالة مع الوضوح. فمن غير الممكن الكتابة بهدف التوعية لتجعل القارئ يبحث في قواميس اللغة لتكون بذلك قد صرفته عن تلقي المعلومات المقدمة له. ومن غير المنطقي أيضاً كتابة أسماء المحلات بشكل مهين للغة العربية الأم، ثم إساءة ترجمتها.
وبين هذا وذاك نتمنى ألا نصل إلى ما وصل إليه النحوي من فرط تقعر ولده في الحديث في رواية تقول: «إنّه كان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت فاجتمع عليه أولاده وقالوا له ندعو لك فلاناً أخانا. قال: لا، إن جاءني قتلني. فقالوا: نحن نوصيه ألّا يتكلم، فدعوه فلما دخل عليه قال له: يا أبت قل لا إله إلا الله تدخل بها الجنة وتفوز من النار. يا أبت والله ما شغلني عنك إلّا فلان، فإنّه دعاني بالأمس فأهرس وأعدس واستبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوذج ...فصاح أبوه: غمضّوني فقد سبق هذا الشقي ملك الموت إلى قبض روحي».

النيلين