مجمع اللغة العربية ينفض الغبار عن لغويين وأعلام

القدس العربي

«أضواء مجمعية على مجالات الإصلاح» عنوان ندوة أقامها على مدى يومين مجمع اللغة العربية بدمشق بمناسبة الاحتفال اليوم العالمي للغة العربية واللغة الأم بحثت في قضايا اللغة العربية وأهميتها ودورها وسلطت الضوء على جهود وإسهامات مجمعيين مؤسسين ولغويين معاصرين أعطوا اللغة العربية عصارة جهد وفكر..
 
الندوة التي اختتمت يوم أمس الإثنين شهدت حضوراً لافتاً من مهتمين ومفكرين ومجمعيين لغويين فتحت باب النقاش على الحضور الفكري للغة العربية وإسهاماتها الحضارية وما تعانيه اليوم من صدود وتجاهل وهي التي كانت في مقدمة اللغات التي نشرت الفكر والعلم والمعرفة، واللافت في الندوة أنها مسحت الغبار عن جهود أعلام فكر وعلم ولغة كانت لهم أياد بيضاء على اللغة.
 
ليست الشجاعة... الفقراء واللذة
في الحديث عن «الأفكار النهضوية والاصلاحيَّة عند المجمعي الأمير مصطفى الشهابي» يؤكد د. ممدوح خسارة أننا لا نبالغ إذا قلنا بأن الدعوة  إلى الإحياء اللغوي والثقافي التي انخرط فيها الشهابي مناضلاً مكافحاً كانت على قمة الأفكار النهضوية الإصلاحية.
ولكي نقدِّر دعوة الإحياء اللغوي حقّ قدرها، وجب - تبعاً لـ د. خسارة- أن نذكِّر أن ذلك الإحياء كان جريمة في عهد الأتراك الذين كانوا يفرضون التركية لغة تعليم وتدريس، ويحاربون تعليم العربية.
ولعلَّ أهم مظهر من مظاهر الإحياء اللغوي ما نذر الشهابي نفسه له حسب د. خسارة هو المصطلح العلمي العربي، ولاسيما المصطلحات الزراعية التي استخلص الكثير منها، من اللغة العربية الفصيحة التراثية، ويرى د. خسارة أن الشهابي لم يتوقف عند «المصطلح»، بل تجاوزه  إلى الإسهام في بحوث اللغة العربية، وكان له مشاركة في مباحث التصحيح اللغوي وتطوير المعجمية العربية، مشيراً  إلى أنه كان يؤمن بالمقولة المعروفة: (ليست الشجاعة أن تقهر قويَّا بل أن تنصر ضعيفاً)، ولذا وجدناه لا يقف – فقط-  إلى جانب الفقراء والبسطاء من أبناء وطنه الذين كان يراهم مثالاً للعمل والإيمان والأخلاق الفاضلة، بل يقف أيضاً  إلى جانب المقهورين في العالم أجمع، ولاسيما العبيد في الولايات المتحدة الأميركية عندما ترجم كتيِّب ( تجارة الرِّق والرقيق) الذي يُصَوِّر- تبعاً لـ ـد. خسارة - معاناة العبيد الفقراء المظلومين في أميركا والعالم الجديد، ويدعو للوقوف معهم ومناصرة قضيَّتهم العادلة في كفاحهم من أجل التحرُّر والانعتاق، لافتاً  إلى أن الشهابي كان ينحاز  إلى فلسفة اللذة التي ترى اللذة في أن يقف الإنسان  إلى جانب الضعيف يقويه ويشدُّ من أزره لأنه أخوه في الإنسانية.
ويؤكد د. خسارة أنه ندر أن مرَّت في كتبه وبحوثه مناسبة يمكن من خلالها تمجيد العقل والعلم والموضوعية إلا وفَعل، كان «يتمنَّى أن ترسخ دعائم الأسلوب العلمي في التفكير» وهو «يبعث بتحيَّة  إلى كل عالم مصري طرح الأساليب الغيبيَّة وعكف على أعمال مَخْبَرِه يفتِّش بأساليب العلم الحديث عن غوامض هذه الطبيعة وأحاجيها». والتعليل الصحيح عنده حسب د. خسارة هو ما كان مبنيّاً على المحسوس لا المـُتَخَيَّل؛ وأجلى ما تبرز فيه نزعته العقلانية والعلمية قولُه: «وقد آن لنا أن نتحلَّل من الأوهام وأن نحاكم الأمور والحوادث بأسلوب علمي مبنيَّ على العقل والمنطق والاستقراء... يجب ألا نترك مجالاً للأوهام تتحكَّم في عقولنا وتحول بيننا وبين التفكير السليم».
قد يبدو من المستغرب أن تُعَدَّ الوسطيَّة والاعتدال عند الشهابي - برأي د. خسارة-من الأفكار النهضوية والإصلاحيَّة، لأن النهضة والإصلاح عند بعضهم مقرونان بالحَدِّية والثورية لا بالاعتدال والوسطية، بل قد تُوصم الوسطيَّة بالذبذبة والهرب من اتخاذ موقف واضح. ولكن د. خسارة يراها من الفكر النهضوي في السياقات التي مارسها الشهابي ويبدو هذا الاعتدال في موقفه من اللغة القومية واللغات الأجنبية، «فهو يرى أن الاطلاع على اللغات الأجنبية ضروريٌّ للمتعلم العربي بشرط ألا يحلها محلِّ لغته في التخاطب والتراسل. ».
ولم يك الشهابي برأي د. خسارة مخدوعاً بأوهام أصحاب النزعة المشرقية العثمانية الاستبدادية، ولا بأضاليل أصحاب النزعة الغربية الاستعمارية. أليست الوسطية السياسية بين موقفين كهذين الموقفين هي من صور الفكر النهضوي «وإيثاراً لأهون الشرَّين وكلاهما كان شرّاً».
ويؤكد د. خسارة ما زال الإحياء اللغوي وتطوير اللغة مطلوباً في مواجهة التشدُّد والتفلُّت اللغوي والثقافي، وما زالت النزعة الإنسانية والتحررية لازمة في مواجهة الوحشية والاستبداد، وما زال الاعتدال واجباً لمواجهة التطرُّف، وما زالت العقلانية والعلميّة ضرورة في مواجهة المفاهيم الغيبية اللاموضوعية لبناء مجتمع عربي معاصر متقدم.
 
التشاؤم... التشدد.. والانفتاح
في بحثه «أضواء مجمعية على مجالات الإصلاح» يتوقف د. أنور الخطيب عند الريحاني الأب المؤسس لما يُسمّى بالأدب العربي الأميركي والأدب المهجري الذي كتب: «مع الحرية يوجد الفساد،.... ومع العدل يوجد الظلم..... ومع التفاؤل يوجد التشاؤم....... «وأن أميركا ليست نعيما وليست جحيما، عليك التمتع بمحاسنها وتجنب مساوئها.... لأن لهم دينًا... يظنون أنهم يُعْفَون أن تكون لهم أخلاق».
لكن يبدو برأي الخطيب أن التشاؤم تغلب عليه، وقرر أن يعود  إلى لبنان. ويا ليته لم يعد. كان يعتقد أنه لا يزال لبنانيا، مع أنه تأمرك كثيرًا. لكن اللبنانيين الذين كان تركهم نظروا إليه على أنه أميركي. وفشل فشلا ذريعا في أن يثبت لهم أنه لا يزال لبنانيا. ومثل صراع الهوية الذي عانى منه في نيويورك، عانى من صراع هوية جديد في لبنان. ثم عانى من صراع ثان، ليس مع نفسه، ولكن مع كنيسته المارونية، مع أنه لم يغير دينه في أميركا، لكنه كان قد تشبع بروح التسامح الديني. ولهذا، عندما عاد  إلى بيروت، تمرد على التشدد، ليس فقط داخل الكنيسة المارونية، ولكن أيضا، في علاقتها بطوائف مسيحية أخرى، فضلاً عن المسلمين. ثم عانى أمين الريحاني من صراع ثالث مع الإمبراطورية العثمانية، عندما بدأ يلقي محاضرات ويقود مظاهرات مضادّة للعثمانيين. ومثلما فصله القساوسة المارونيون، اعتقله الحكام العثمانيون، وهو نفسه، ربما من غير أن يدري، أثبت كثرة محاسن أميركا، وخاصة الحرية التي كانت دافعه الأول بعد أن عاد  إلى لبنان، واشترك مع العالم العربي في صراعه مع الإمبراطورية العثمانية.
ويشير د. الخطيب إلى أن المعاناة الدرامية لأمين الريحاني الذي أدرك المكانة المستقبلية للولايات المتحدة ودورها المتوقع في قيادة العالم، أوصلته  إلى قناعة مفادها أن شكل العلاقة بين العرب والأميركيين ستكون حاسمة وفاصلة، فيعود  إلى موطنه لتعريف الناس بالمبادئ الأميركية، وفي مقدمتها الحرية والديمقراطية، لافتاً  إلى أن الريحاني نادى بالخروج من الجهل وتخلُّفه  إلى النور وتقدمه... ومن الانطواء على الذات  إلى الانفتاح على العالم.... ومن عداوة العرب للغرب وخاصة أميركا  إلى تفاهم وصداقة وتبادل قيم وصناعات وكشوفات.
كان الريحاني يمثل برأي د. الخطيب عبوراً عربياً أمويِّ الهوى.....  إلى عربي معاصر يعرف كيف تبنى الشعوب والأوطان ويشارك في بنائها على الصعيد العربي والأميركي والعالمي، وأنه كان يؤمن بانفتاح العرب على الدول الغربية مع المحافظة على الأخلاق الوطنية بعيدًا عن العلاقات التي لا تُحمد عقباها.
أما فيما يتعلق بالروح والجسد - يعقب د. الخطيب- فقد عانى الريحاني كثيرًا من الصراع الفكري، ذلك الصراع العنيف بين المادة والروح... وبين العقل والإيمان.... وبين الطبيعة وما وراء الطبيعة... وبين المنظور واللامنظور مؤمناً بالتطور مدخلاً أساسيا لذلك الصراع الحاد الذي قد ملأ مخيلته... محاولاً من خلالها اكتشاف الروح والغوص في أعماقها.
إن الريحاني - حسب د. الخطيب- هو ليس العربي الأول الذي تأثر بالفلسفة الأوروبية وخاصة الألمانية بشقيها المادي الصارم والروحي العميق، وأنه صاغ رؤيته  إلى العالم من خلال هجرته الشخصية  إلى أميركا... فقد اعتبر نفسه ليس دخيلاً بقدر ما هو أصيل لكون هذا العالم، من وجهة نظره، ملكاً لكل إنسان، ومن حقه أن يعيش حيثما أراد... «فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان».
أمين الريحاني - يؤكد د. الخطيب- شخصية تستحق كل التقدير والثناء وإننا في حقيقة الأمر لن نستطيع في هذه العجالة أن نذكر كل ما قدمه الريحاني من خدمة للثقافة العربية وللمثقف العربي خصوصاً، لافتاً  إلى الحس الفلسفي الذي يتوق  إلى كشف مكنونات الذات البشرية... وبذلك الشغف الجميل أيضاً في محاولة إيصال صوت المثقف العربي المعاصر  إلى كل من يجهل ماهية الثقافة العربية وقوتها وروعتها ورصانتها بين مختلف ثقافات العالم وإيصاله  إلى تلك الأفكار المغلفة بالصداقة والغَيرة على أمته العربية.
أما جبر بن ميخائيل ضومِط: أديب خدم العربية تدريسًا وتأليفًا (1859-1930). فقد تميز أسلوبه برأي د. الخطيب بالسهولة.... وجودة التصنيف..... وحسن إيراد الشواهد على ما يريد إثباته. وكل ما كتب فيها يرمي  إلى تعزيز رأيه في فلسفة اللغة العربية وتطورها.
 ويؤكد د. الخطيب أنه بعد خمسة وثمانين عامًا على طباعة كتاب جبر ضومط (فلسفة اللغة العربية وتطورها) ما زلنا في أشد الحاجة  إلى معالجة مضمون هذه الفلسفة البيولوجية الذي يركز على الاشتقاق والقياس كأبرز مقومات اللغة العربية الأساسية
ولم يقم بعده من علماء اللغة، من سار على المنهج الذي اختطه في البحث والتنقيب والتأليف لإغناء هذه اللغة العريقة، بل اكتفوا بمضغ ما وضعه الأقدمون من قواعد وأقوال ثم يرجعونها إلينا بأشكال جديدة.
 
مؤتمرات.. وإجراءات
د. مازن المبارك تحدث عن حركة التعريب وإسهامات الأعضاء الأوائل فيها، مؤكداً أن أهمّ ما كانت النخبة الواعية من رجال العرب تفكِّر فيه، حين أشرق فجر القرن العشرين هو الهمُّ العربيّ الذي يتمثّل في تحرير العرب وإحيائهم، بل قل هو الهمّ اللغويّ الذي وجدوه داعية  إلى التحرير ووسيلة  إلى الإحياء، فلا تحرير للعرب إلا إذا تحرّرت ألسنتهم وانطلقت بلغتهم، ولا إحياء لهم إذا لم يُحيوا تراثهم، ولا سيادة لهم في أوطانهم إذا لم تكن السيادة فيها للغتهم،
لقد كان التعريب عندهم ابن عصرهم، ومطلَب أمَّتهم التي أُبعدت عن العروبة، أو أُبعدت العروبة عنها، وفرضت عليها العجمة وأُلبست غير لباسها.
ويشير د. المبارك  إلى أن عرب الشام حكومةً وشعباً، واجهوا تحدِّياً قاسياً صعباً، ولكن إيمانهم، حكّاماً ومحكومين، ورجالاً من المفكرين والعلماء المخلصين، كان أقوى من التحدِّي، فلم يلجؤوا كما يفعل أبناؤهم اليوم  إلى عقد المؤتمرات لدراسة المشكلات وإصدار التوصيات، بل قلبوا صفحة حياتهم، بل قل عرَّبوا حياتهم بإجراءات سريعة  إلى الحدّ الذي كانت فيه بعض تلك الإجراءات تُنفَّذ ثم يُتَّخذ قرار تنفيذها بعد نفاذها بيومٍ أو أيام!
 
إسهامات.. إصلاحات وتأييد
د. محمود السيّد ألقى أضواءً مجمعية على مجالات الإصلاح لدى كل من المجمعيين سليم الجندي وشكري فيصل وأمجد الطرابلسي وعبد الوهاب حومد، مشيراً  إلى أنه وفي عملية استقرائية لبعض نتاج مجمعيينا المتخيّرين وجد أن من مجالات الإِصلاح التي سلطوا الأضواء عليها تجلت في العديد من القضايا منها في «بناء البشر وتكوين الأطر»، لافتاً  إلى أنه من الأفكار الإصلاحية التي دعا إليها المجمعي سليم الجندي الالتفات  إلى الطفولة والعناية بها،
أن المجمعي شكري فيصل دعا حملة الأقلام  إلى الإحساس العميق بمسؤولية الكلمة، إذ يعد ذلك أمانة في أعناقهم، وإن الغذاء الفكري الذي يقدمونه للناس ينبغي له أن يكون غنياً مستنداً  إلى ثروة خلقية، أما في «الجمع بين الأصالة والمعاصرة» فإن هذه الكوكبة المتخيّرة برأي د. السيد دعت  إلى الجمع بين الأصالة والمعاصرة في إصلاح الأمة والارتقاء بواقعها والنهوض بها، وإذا كانت تعتز بالتراث فإنها لا تقف عليه وحده، وسبيل الإصلاح يتجلى في الربط بين التراث والحاضر الواقع، لأن هذا الاستمرار بينهما هو الذي يعطي وجودنا الإنساني لا معناه الأصيل المتميز فحسب، بل إنه يهبه كذلك وفوق ذلك قدرة لا تعد لها قدرة أخرى برأي د. السيد على تجاوز كل عقبة من هذه العقبات التي تنتشر على طريقنا وكأنها نباتات سامة على حدّ تعبير المجمعي شكري فيصل.
وفي ضوء هذا التوجه يعقب د. السيد كانت جهود المجمعي شكري فيصل ترمي  إلى تبيان جوانب من تراث الأمة العربية اللغو ي والأدبي في ماضيها، وقد تجلى ذلك في المؤلفات التي خلّفها وراءه.
وفي إطلالته على تراث الأمة وقف المجمعي الطرابلسي - حسب د. السيد على نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة، أما المجمعي عبد الوهاب حومد فقد ركز في نتاجه على الجوانب القانونية المعاصرة مع إيمانه بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أما في «الإصلاح اللغوي» فقد أسهم المجمعي الجندي - حسب د. السيد -في تصحيح لغة الدواوين، فعمل على تنقية اللغة من العجمة والركاكة، فكان حريصاً أيما حرص على الفصاحة والبلاغة، مشيراً  إلى رأيه في أن إحياء اللغة يكون على قاعدة توزيع الأعمال في ضوء اختصاصات الباحثين، أما المجمعي شكري فيصل فقد رأى - تبعاً لــ د. السيد - أن البحث في حاضر اللغة العربية أو في ماضيها أو في مستقبلها إنما هو بحث متكامل الجوانب، إذ يرى أن اهتمامنا بالماضي منها هو نوع من المعرفة ومن الإحياء ومن رعاية الجذور والاهتمام بها حتى تظل طريقاً  إلى النمو ومن تتبع السيرة ومن مراقبة التطور. وإن اهتمامنا بحاضرنا هو اهتمام بالواقع الذي نحيا فيه ومعاناة كاملة لأشيائه، وأن المجمعي عبد الوهاب حومد رأى أن لغتنا العربية كانت وما تزال عسيرة على الأجانب، وعلينا نحن أبناء العربية أيضاً خاصة قواعدها النحوية والصرفية والإملائية، ووجد أن العلة الكبرى تكمن في الجمود الذي ضرب مقوّمات حياتنا الفكرية في جميع جوانبها منذ أكثر من ألف عام، وإذا كان الدكتور حومد يدعو  إلى إصلاح النحو فإنه - حسب د. السيد يستدرك قائلاً: «ولكن لا يصح أبداً أن يفهم من تأييدنا لدعوات الإصلاح أننا نريد المساس بلغة الآباء التي أصبحت عنوان كرامتنا ووعاء ثقافتنا وحضارتنا والأمانة التي ائتمننا عليها تاريخنا وقوميتنا، لأننا إنما نريد إصلاحاً يحقق للعربية سبل التقدم، ويذلل لأبنائها أسباب استيعابها وسهولة التمكن من قواعدها نحواً وصرفاً واشتقاقاً وإملاء، ومن منطلق الحفاظ على التراث وفي إطاره».
ويؤكد د. السيد أنه لم تكن نظرة أغلب مجمعيينا من هذه الكوكبة المتخيّرة جزئية مبتسرة في معالجة القضايا، إنما كانت نظرة شمولية متكاملة.
د. مروان المحاسني رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق كان أكد في كلمته الافتتاحية للندوة أنه ما دامت اللغة حاملةً للفكر ومحوراً للحياة والأداةَ المثلى للتواصل الاجتماعي، فلا بدّ لها من أن تتأثر باختلاف الظروف، وأن تتلاءم مع ما يتطلبه المجتمع حسب تغيّر الأحوال. وهذا وضعٌ جليّ تبدَّى - برأي المحاسني في لغتنا منذ أن وصلت إليها إرهاصات عالَمٍ غربي يسير بخُطًا حثيثة نحو حداثة تتسابق فيها المعارف، لإيصال الإنسان  إلى معرفة نفسه وموقعه في هذا العالم، وهو سياقٌ عالمي مازال يُتحفنا بعجائبَ متتاليةٍ غيّرت نظرتنا  إلى الكون الذي نعيش فيه.
 
تظرف.. استسهال وجهل
ويشير د. المحاسني إلى أن نظرة المجمعيين لم تكن  إلى لغتهم على أنها لغةٌ متخلّفة قد أصيبت باضمحلال تدريجي عبر القرون، بل أدركوا أنها أوسع مما يطلب إليها من تطابق مع أوضاع جديدة، لافتاً  إلى قول فردينان دو سوسور وهو من كبار علماء اللسان أن «اللغة العربية هي أقدم لغة حية في عالم اليوم» وهو الذي غاص في التراث العربي وكان له الفضل في نشر مقدمة ابن خلدون وتوضيح موقعها العلمي، قبل أن يُدرك العرب قيمتها في التاريخ وعلم المجتمع.
ويؤكد د. المحاسني أن الفضل في عدم انحلال تلك اللغة المتكاملة العناصر رغم صروف الدهر، يعود  إلى بِنْيتها الرياضية المنطقية، وإلى صفتها الانصهارية الاشتقاقية التي تَفضُل اللغات الإلصاقية غير الإعرابية (كاللغات الأوروبية الحديثة ومجموعة اللغات التركية) وذلك بسبب وجود أوزان صرفية فيها لها قوة الإصهار الشكلاني، تُوْصلها  إلى دِقّة نادرة المثال في استعمال المقاييس الصرفية لصنع المصطلح المطلوب.
ويرى د. المحاسني أن مفهوم الإصلاح قد شوّهته ادّعاءات وتخرّصات، تفيد بأن التراجع الذي قلَّل من استعمال الفصحى يتطلب إعادة النظر في قواعدها التي وُصفت بالصعبة بل بالمحيّرة أنها نظرة أرادت - برأيه- أن تتجاوز جماليات اللغة العربية المربوطة بإعرابها، وحسن الاعتماد على المنطلقات العقلية التي تستند إليها القواعد، فمِن طالبٍ بإلغاء نون النسوة،  إلى طالبِ ضبطِ جموع التكسير وتوحيدِها، إلى من يُحبّذ تسكين أواخر الكلمات، طاوياً موقع الإعراب أساساً لفهم النص. وهم يظنون أن مثل هذه الإصلاحات المزعومة تجعل اللغة الصعبة في متناول الجماهير، فتعمّ الثقافة، إنها - يعقب د. المحاسني - نظرة سطحية  إلى واقع مؤلم أبعدَ العامةَ عن إتقان اللغة، وذلك كسلاً أو لقلَّة الدُّرْبة،  إلى حدّ أنهم أخذوا يُدخلون تعابير أجنبية في صلب حديثهم تظرّفاً أو استسهالاً، أو جهلاً للغةٍ اعتبروها أداةً لا وظيفة لها إلا تسهيلُ التفاعل بين أعضاء مجتمعهم. والعجيب برأي د. المحاسني أن فريقاً آخر من الغيورين على لغة القرآن، يعتبرون أن كل مَسٍّ لمرتكزات العربية يشكل تجرُّؤاً على هذه اللغة وتنكُّراً لماضيها المجيد.
إن هذه النظرة التي تَتَسَيَّج بما تسميه الأصالة، إنما هي - يشير د. المحاسني - تعصّب شكلاني يربط عظَمة اللغة بهيكليتها، متجاهلاً كونَها قيمةً إضافية في حياة كل فرد يتقنها، ليستطيع فَهم ذاته وفهم عالمه.
ويؤكد د. المحاسني أن الأصالة ليست التمسّكَ بمعطيات صغيرة تَبرز لنا من دراسة تراثنا وما فيه من خلافات يمكن تجاوزها، لتبقى لغتنا محوراً حيوياً تدور حوله مقدّرات مجتمعنا.
إنّ تضييق الفجوة الحضارية بيننا وبين الغرب يتطلب - برأي د. المحاسني - التبحّرَ باللغة العربية، واعتمادَ مراجعها للتمكن من تصاريفها قاعدةً لاستنباط الأبدال العربية للمصطلحات الأجنبية، وإن النهوض بمجتمعنا لابد -برأيه - أن يستند قبل كل شيء  إلى لغة سليمة واضحة البيان تتشرّب لغة العلوم والتقانات، كي يُدخلَها الأفرادُ في حياتهم اليومية وهو ما يجعلها مِرقاةً لكل رقيّ وأساساً لكل نماء.


القدس العربي