اللغة العربية: بين يومها الدولى وحالها البائس

أ. محمد الخولى

 18 ديسمبر الحالى.. اليوم العالمى للغة العربية احتفلت به مصر على نحو ما أفادت ميديا الإعلام فى الإذاعات المسموعة بالذات.. المشكلة الخطيرة أن مثل هذه المناسبات تأتى وتروح.. ولا جواب جانى كما يقول المثل المتواتر.
والمشكلة الأخطر أننا نقيم الإحتفالات ونعيش المهرجانات ونزين الكرنفالات.. ومن خلالها نعيش حالة مخيفة من تهنئة النفس – Complacency- كما يقول مصطلح الفرنجة.. بمعنى الرضا الموهوم والمرفوض أيضاً عن الذات.. وأيضاً بمعنى أننا نشعر بالإرتياح إزاء ما تصورناه من أداء الواجب نحو لغتنا القومية خلال فعاليات يومها.. القومى أيضاً.. وبعدها ينفض المولد ولا يبقى أمام اللغة الشريفة الجميلة سوى أن تقبع صابرة.. مهيضة مكسورة الجناح انتظاراً لاحتفال العام القادم – وعليك وعليها ألف خير..
هذه هى الإحتفالات التى تؤدى إلى خداع النفس وتسلم إلى موقف "الطناش" على ما أصبحت اللغة العربية تكابده فى بلادك المسماة رسمياً بأنها "مصر العربية" أيضاً.. مع أننا نكاد نراهن على رسوب أى مواطن تصادفه فى الطريق فى أول إمتحان فى نفس اللغة العربية.. يستوى فى ذلك تلاميذ المدارس مع خريجى الجامعات.. بل تستوى بكل أسف ولوعة – قامات لها كل الإحترام فى مواقع الوزارة والسفارة بل والقضاء فى بلدك الطيب العزيز.
ولسنا من عازفى نغمات الماضى.. ولا نحن من مرددى حكاية مكرورة عن "الزمن الجميل".. فلم يكن الماضى جميلاً كله.. ولكن كان هذا الماضى يشهد فى أقل القليل.. نوعاً ما.. نكرر: نوعاً ما من إحترام العربية والإهتمام بها وربما الحدب عليها حماية لها من العلل والأنواء المتربصة بهذه العربية لساناً وتراثاً وفكراً وإبداعاً.. وكانت هذه الحماية – أعزك الله- تبدأ بصدور قانون عمره الآن يقارب الستين عاماً يفرض بمقتضى بنوده أولوية استخدام العربية فى لافتات المحلات العمومية فيما يبيح أيضاً إستخدام ترجمات أجنبية إنجليزية أو فرنسية أو غيرها.. ولكن فى مواقع وسياقات دون اللغة العربية.
وفيما تسلّم موضوعياً بأن اللغة لا تحميها فقط نصوص التشريع.. فإننا لا نملك سوى أن نحيل – بعد إذنك أيضاً- إلى أيام الزمن الجميل إياه.. لا لمجرد كونه ماضياً قد يستثير فى الوجدان مشاعر الحنين الدافق.. النوستاﻠﭽيا كما يقول التعبير اللاتينى المعروف، ولكنه لأنه الزمن الذى كان يصغى بشغف ومحبة وفهم واستيعاب إلى "أم كلثوم" وهى تشدو بفصحى "شوقى" من ربوع مصر.. و"آدم" من أصقاع السودان.. و"عبد الله الفيصل" من أرض الجزيرة العربية.. و"جرداق" من روابى لبنان فى الشام.. ناهيك عن "الحمدانى" و"ابن النبيه" و"الشريف الرضى" وأندادهم من سدنة التراث الأصيل الذى أضفى على لغتها ولغة سيادتك لمسة الجمال وروعة الفصاحة وطابع الخلود.
وما كانت كوكب شرقنا سوى علامة فارقة وعنواناً رائعاً لعصر مجتهد.. إذ كان العصر يضم "عبد الوهاب"- الكرنك و"عبد الوهاب"- الجندول.. و"عبد الوهاب"- كليوباترا.. و"عبد الوهاب"- همسة حائرة.. والحبل على الجّرار كما يقول أشقاؤنا الأعزاز فى لبنان- البلد الأجمل الذى أهدانا "وديع" – "أبو فادى" الجميل عليه رحمة الله.. ومعه باقة الألحان المبدعة والأصوات الشجية.. وفى طليعتها "فيروز"– جارة القمر التى مابرحت تحيط موهبتها وتحف سيرتها الفنية هالة نورانية وخاصة حين تشدو "أم زياد" العظيمة بفصاحة الأندلسيات فتضيف إلى لغة العرب لمسة من أصالة وروعة وبهاء.
ترى.. ماذا يكون شعور سيادتك عندما تحاول فى لحظة ليس إلا – أن توازن أو تقارن بين هذا البهاء الذى إزدانت به حقبة انطوت فى صفحة زماننا.. وبين ما نعايشه من حالة يتْم واستهانة وانكسار أصبحت اللغة العربية تعانيها حتى فى ميديا الإعلام التى طالما كانت حادبة على العربية.. حفية بها وراعية لها..
لا نتحدث عن عربية العصر الجاهلى ولا عن عربية "المتنبى" ولا حتى عن عربية "مصطفى الرافعى" أو "المنفلوطى" أو "طه حسين"..
نتحدث عن عربية الإذاعة المصرية – البرنامج العام وصوت العرب فى زمانات مضت وهى عربية "محمد التابعى" و"فكرى أباظة" و"مصطفى أمين" و"أحمد بهاء الدين" و"محمد حسنين هيكل".. لغة عصرية.. سائغة بعيدة عن الزركشة أو المحسنات أو الغلو أو التماهى مع كلاسيكيات أزمنة مضت وراحت أيامها.. نتحدث عن عربية زماننا.. التى تستمد فصاحتها من معاصرتها ومن بلاغة تناولها الواعى لأحدث ما جادت وتجود به تكنولوﭽيا المعلومات والإتصالات فى القرن الواحد والعشرين.
هذه هى العربية القادرة بكل إمتياز على التعبير عن اللحظة الراهنة.. بفصاحة ودقة وبلاغة.
وعلينا أن نتمسك بها قدر تمسك الشعوب الأخرى بلغاتها جنباً إلى جنب مع لغات أخرى ومنها الإنجليزية على سبيل المثال..
وبفضل هذا التمسك نستطيع أن نضيف إلى معاجم العربية كل ما ندركه ونفهمه ونهضمه وننقله من ثمار عصرنا إلى لغة العرب البليغة والجميلة..
هنالك نعانى– بعد إذنك أيضاً- حين نقرأ مثلاً.. مثلاً إعلاناً بائساً تراه معلقاً على النواصى والجسور والمنعطفات يريد أن يطمئن الفرد من عامة المستهلكين فيقول:
• "كون واثق" (!)
وترجمة هذا الهجين الغريب هو العبارة بالغة البساطة والسلامة التى تقول:
• كن واثقاً
أو.. كما قال

البشاير