|

التوظيف الاصطلاحي للغة العربية: حوسم، يحوسم، محوسم
أ.د. محمد الدعمي
حري بفقهاء اللغة العربية الذين يملأون جامعاتنا من المحيط إلى الخليج الالتفات إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الاستخدام الاصطلاحي" للألفاظ، خاصة في اللهجات العربية الدارجة عبر العالم العربي الكبير والمتنوع. والحق، فإن هذه الدعوة إنما تنبعث مما لاحظته شخصيًّا في اللهجة العربية الدارجة في العراق نظرًا لقدرتها على استيعاب المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاستجابة لها على نحو يستحق الرصد والتحليل الأكاديمي، خاصة في السنوات الأخيرة حيث قدمت العربية الدارجة في العراق نماذج طريفة للتوظيف الاصطلاحي للألفاظ، درجة ملاحظتها من قبل إخواننا في العالم العربي وفهمها على نحو كامل. والمقصود بـ"التوظيف الاصطلاحي للألفاظ" هو نزع هذه الألفاظ لدلالاتها الأصلية كي تكتسب دلالات جديدة قد تكون معكوسة.
عندما شعر الجميع باقتراب حدوث حرب الخليج الثالثة، أي حرب غزو العراق، عمد الرئيس السابق صدام حسين، كعادته، إلى ابتكار اسم مناسب لها، كما فعل في "القادسية الثانية" و"أم المعارك"، فقرر تسمية حرب 2003 بـ"الحواسم"، باعتبار التفاؤل بأنها ستكون الحرب الحاسمة والأخيرة. وقد عمد العقل الجماعي العراقي إلى ملاحظة هذا الاسم المبتكر واعتبار تقلبات دلالاته تأسيسًا على معطيات الحرب ونتائجها. وقد كان من بين أهم نتائجها، إضافة إلى سقوط النظام، بروز حالة النهب والسلب العامة التي شملت جميع المرافق والمخازن والمعسكرات والدوائر الحكومية التي ساعدت القوات الغازية الجمهور على الإتيان عليها. لذا اقترنت الحواسم بظاهرة النهب والسلب والسرقة، الأمر الذي قاد العقل الشعبي إلى توظيف لفظ "حواسم" على النحو الاصطلاحي الذي يعكس ما حدث في العراق بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وهكذا ظهر الفعل "حوسم"، "يحوسم"، فهو "محوسم"، بمعنى نهب، ينهب فهو منهوب، تتابعًا. وهو توظيف اصطلاحي شائع في العراق وربما فيما جاوره من الدول العربية الأكثر احتكاكًا بالشعب العراقي المظلوم.
وقد كانت ظاهرة البطالة من أهم نتائج هذه الحرب حيث طفت على جلد المجتمع ظاهرة الشباب غير المنتج المتأنق الذي لا يحصل على عمل؛ وقد قرر العقل الشعبي العراقي ابتداع الاستخدام الاصطلاحي لتعيين هذه الظاهرة المستشرية، فبرز لفظ "حديقة"، لوصف هذا الشاب الجميل المظهر واللطيف المعشر الذي لا فائدة عملية ترتجى منه، لذا فإنه "حديقة" بمعنى مكان جميل للمشاهدة والراحة حسب، وليس للعمل والإنتاج. وهكذا ظهر العديد من الشباب نوع "حديقة"، العالة على المجتمع، زد على ذلك ظهور اصطلاح "سائق المخدة"، الذي لا يختلف كثيرًا عن "الحديقة" لأن وظيفة الأخير وعمله هو "النوم" فقط، لذا فإنه يقود المخدة بدلًا عن قيادة سيارة أو حادلة مثلًا.
وإذا كانت هذه الألفاظ من معطيات غزو العراق وما تلاه من مآسٍ، فإن ما سبق لا يقل طرافة وأهمية لغوية، خاصة أثناء مرحلة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق والذي أدى إلى تدهور مريع في قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار، الأمر الذي أدى إلى قفز القيمة التداولية لورقة من فئة مئة دولار إلى أرقام خيالية. بيد أن العقل العراقي لم يسم القيمة الحقيقية لهذه الفئة، فاكتفى بتسميتها بـ"ورقة"؛ إذًا "ورقة" لا تعني ورقة دفتر مدرسي في العراق، لأنها تعني ورقة نقدية فئة مئة دولار ولها قيمة ملايين أوراق الدفاتر المدرسية آنذاك. بل إن لفظة "ورقة" راح يتطور ويستحيل فعلًا أو اسمًا، فراح العراقيون يقولون إن فلانًا يورّق، بمعنى يدفع مبالغ جيدة، أو يقولون "توريق" بمعنى الإنفاق وكذلك دفع الرشوة، فعلى من يستمع أن "يورّق" أي أن يدفع المال! ثم ما لبث التوظيف الاصطلاحي وأن تطور تراكميًّا فصارت مجموعة الأوراق من فئة مئة دولار تسمى "دفترًا"، وهكذا دواليك.
27/10/2012
صحيفة الوطن العُمانية
|
|
|
|