مَلغـــــــاة - ومن اللغة ما علم

أ. معاذ أوزال


ملأت المسألة اللغوية خلال هذه السنة الدنيا و شغلت الناس في المملكة المغربية، فمنا من اتخذ موقع المدافع المنافح المستشعر لخطورة ما يخطط للغة العربية في المجال التربوي التعليمي، و منا من نبه إلى أن هذا النقاش غير مفيد بل و يحجب عن الأذهان القضايا الرئيسة التي يجب التصدي لها في منظومتنا التعليمية.

هذا و بعد أن هدأت فورة الحماس و عادت الأقلام إلى أغمادها، لنا أن نتساءل في هدوء عن المغزى، ليس من إثارة قضية المسألة اللغوية في منظومتنا التعليمية، و لكن من إثارتها بهذا الحجم و بهذه الحدة.

لطالما شكلت المسألة اللغوية في المدرسة المغربية مجالا للنقاش و التفاعل، المواقف من المسألة معروفة و حدود النقاش واضحة، فمن أين لهذا النقاش الآن هذه القوة في الإنجاز؟ و ما هذا الزخم الذي شباه؟ و أية هبة هذه نقلته من مناسبة للنقاش تفعل فعلها في اللحظة ذاتها من زمن نقاشاتنا المناسباتية النمطية ثم تتوارى، إلى لحظة وعي حية رجت الأذهان و أثارت الأفعال وردودها، بل و دمغت الفكرة بالتصور؟

الأسئلة المطروحة مؤشر على لحظة مخاض تؤسس لولادة ما، فالنقاش المذكور في نمطيته و حدوده لم تتوافر له في السابق من الأرضية الخصبة و قوة الدفع ما يجنبه أن يجهض في كل مرة.

هذه الأرضية و هذه القوة تحققتا في هذه اللحظة التاريخية المفصلية و بالتالي كانت الولادة، و الولادة تعني بالضرورة النمو و التطور في اتجاه البلوغ و النضج.

شكل الخطاب الملكي ل 20 غشت 2013، الاستثنائي في لغته و مضمونه، لحظة تاريخية فارقة في مسار منظومة التربية و التكوين، حيث أكد بوضوح شديد فشل هذه المنظومة و دعا إلى التدارك و تصحيح المسار.هذي الأرضية.

الخطاب زلزل الوعي الشقي للخطاب الناقد الذي يجتر مقولاته، فأصبحت بالتالي أرضيته صالحة للحرث و القلب في اتجاه نقاش جديد قد يثمر محصولا جيدا.

قوة الدفع تحققت جراء المبادرة التي أطلقها نور الدين عيوش (الاسم ليس الغرض منه المسمى و إنما الإشارة إلى تيار فكري و مؤسسة عميقة) و التي دعا من خلالها إلى اعتماد الدارجة المغربية لغة للتعليم و التعلم.

ردود الأفعال كانت قوية و غير نمطية، و شارك في النقاش فلاسفة و علماء لسانيات و إعلاميون و عامة الناس... فتحقق للمسألة اللغوية في منظومتنا التربوية التعليمية من الزخم ما جعل الرأي العام المغربي يستشرف شيئا ما في الأفق ينذر أو يبشر بتحول جدي في اتجاه تحريك الإرادة السياسية و المجتمعية لمباشرة إصلاح هذه المنظومة، و بما تمثله لغة التعلم من دور حاسم في عملية الإصلاح.

لا يختلف المغاربة في كون منظومة التربية و التعليم فاشلة، كما يبدو فاقئا للعيون (لأن الوضوح للعيان متجاوز في هذا المقام) أن هذه المنظومة هي آلة لإعادة الإنتاج بشكل صريح بل وقح. فكل مشاريع الإصلاح التي وقع عليها بقرار سياسي أجهضت بفعل غياب الإرادة السياسية و المواكبة المجتمعية إلى أن بلغ نظامنا التربوية التعليمي قرار الهاوية، فكانت الغضبة الملكية في الخطاب الأرضية. غضبة لها ما يبررها، فغياب الدولة عن المجتمع هو سقوط عميق لها ينذر بالسقوط الصريح.

و هذا الغياب تجسد في التعليم بشكل سافر، و كأنها، أي الدولة، تكتفي بنجاح النخبة وليد نظام البعثات و التعليم الخاص، و لا تعير انتباها لفشل العامة نتاج نظام التعليم العمومي. و هي رسالة خطيرة للوعي المجتمعي المغربي تبرمجه عصبيا على أن الدولة استقالت من دورها في الإشراف على هذا القطاع - كما قطاعات حيوية أخرى-و أن تدبيرها له هو من قبيل العناء الذي تفرضه اعتبارات السياسة فقط.

الكل في هذه القرية الصغيرة التي هي العالم يدرك بأن الدول التي اقترن نظام التربية و التعليم لديها بالنجاح هي الدول التي حسمت سياسيا و مجتمعيا أمر لغة التعلم لديها.و بالتالي فإن أي إصلاح تربوي تعليمي لابد أن يجترح الحسم في مسألة اللغة بقرار سياسي ثم التخطيط لها و تدبيرها بشكل تشاركي في إطار مشروع وطن لا مكان فيه لمزايدات السياسة.المغرب فضاء لغوي هجين، على سطح الفضاء في السياسة كما في الشعارات تبدو اللغة العربية هي اللغة المعتمدة و المنصوص عليها، ولكن في العمق لغة الاعتمادو قناة النجاح هي اللغة الفرنسية، أما الأمازيغية فلم تشب عن الطوق أكاديميا بعد حتى تدخل غمار التنافس.

و عليه فإن مبادرة نور الدين عيوش، و من خلاله التيار الفرنكفوني الماسك بمواقع التأثير و زمام المبادرات في المغرب، لم تكن مبادرة تلقائية في سياق البحث عن حلول لإصلاح أعطاب منظومة التربية و التكوين، و إنما جاءت تحت إكراه الخطاب الملكي الذي دعا إلى ضرورة تغيير الوضع الكارثي الذي تعيشه هذه المنظومة. فالتيار الفرنكفوني ليس من مصلحته تغيير الوضع التعليمي في المغرب، مادام هذا الوضع يؤمن له مصالحه و يحمي لغته و نمط عيشه و تفكيره.و لأنه من غير الممكن أن يدعو هذا التيار إلى اعتماد اللغة الفرنسية لاعتبارات تاريخية و نفسية و سياسية، و لأنه من غير المتصور كذلك أن يدعو هذا التيار إلى اعتماد اللغة العربية التي يرى فيها المنافس و المدخل إلى تحولات جذرية على مستوى التفكيرو نمط العيش و المصالح الاقتصادية، و لأن اللغة الأمازيغية لا توفر لحد الآن خيارا جاذبا يمكن الاستقواء به و توظيفه في ظهير لغوي يحدث الشرخ المجتمعي المطلوب، فإنه لم يعدم الحيلة، فكانت خشبة الخلاص لديه في هذه الظرفية الحرجة هي الدعوة إلى اعتماد الدارجة لغة للتعلم مستأسدا بالاختراقات التي حققتها الدارجة على مستوى الإعلام، و ظنا منه أنها ستؤمن ثبات الوضع التربوي الملتبس السائد الآن و تضمن بالتالي بقاء الحاضنة الفاسدة التي تكفل استشراء الفرنسية و هيمنتها و تقديمها الخيار الجاذب و الناجع الذي لا بديل عنه، و تكريس تمثلها لغة الخاصة الحاملة للنجاح في مقابل العربية لغة العامة الموسومة بالفشل.

من هنا يمكن توجيه الشكر الجزيل لتيار الدارجة، لأنه من حيث لا يدري حفز على وضع قاطرة التربية و التعليم على سكة التصحيح من خلال مدخل لغة التعلم، كما خدم من حيث لا يريد اللغة العربية، لأنه بالنتيجة لا نتيجة يمكن أن يفضي إليها النقاش الجديد إلا الانتهاء إلى أن اللغة العربية هي لغة المرحلة، وهي المفروض على أصحاب القرار إرادة أو اضطرارا اعتمادها و تمكينها من الاستشراء دواء في جسد منظومة التربية و التعليم العليل.فلا اللغة الفرنسية يمكنها ذلك، ليس لأنها لغة المستعمر فقط، و لكن لأن تنافسيتها ضعيفة عالميا و تمثل خيارا خائبا استراتيجيا.و لا اللغة الأمازيغية يمكنها ذلك رغم أنها لغة المغرب العميق و لغة الوجدان و رصيد المغرب من الأمل اللغوي، و لأنها في حاجة إلى من يخلص في خدمتها و تطويرها.

و لا الدارجة يمكنها ذلك لأنه لا يمكنها ذلك و الأستاذ الفيلسوف عبد الله العروي أقر بذلك.لأجل ذلك، تسائلنا اللغة العربية و تدعو كل الغيورين عليها و على هذا الوطن أن ينتهزوا المشكلة، و أن يبنوا على هذا النقاش غير المسبوق من خلال مبادرات منظمة و مكثفة تحمي اللحظة من الفراغ و تربطها بالإنجاز.و المبادرة هنا لا تبدأ بالبحث العلمي حتى تنتهي بالتعليم الأولي، فمنظومة الجودة في التربية و التكوين تتأسس عليهما و الإصلاح لا يكون إلا بهما. أما البحث العلمي فالحديث فيه ذو شجون و متاهة لا نعدم الصبر في خوضها لأننا نعلم أن منتهاها الجمال، و الرهان عليه مدخله ثقافة بذل المجهود و نبذ الخمول و الاجترار.أما التعليم الأولي فثمة الجذور، و الفرنسية لم تستشر في وطننا و تتمكن إلا لأنها وجدت في التعليم الأولي حاضنتها و رافعتها، يكفي أن الطفل المغربي في هذا التعليم يبرمج ذهنيا و يعد نفسيا على أفضلية الفرنسية و علو كعبها.

لذلك فالغيرة على اللغة العربية يجب أن تترجم إلى انخراط واسع للغيورين في مشاريع بحث منظمة توجه بوصلتها نحو أهداف محددة لعل أكثرها استعجالا ما تعلق بالتعليم الأولي،على اعتبار أن البحث العلمي هو المدخل الأساس لإعادة الاعتبار للغة العربية و جاذبيتها في هذا التعليم و الكفيل بجعل حضورها تنافسيا يزاحم الفرنسية و لم لا يبزها. إلا أن البحث العلمي في هذا العصر وصفة معقدة تتركب من مكونين حيويين، المكون الأول بشري حيث لا غنى للباحث عن الانخراط في فرق بحث يقتسم عناصرها مهام البحث الكثيرة و المتنوعة في إطار مشروع يؤمنون بجدواه و رؤيا واضحة تحفزهم على البذل و العطاء،حيث إن البحث العلمي لم يعد مجرد غواية يرضي من خلالها الباحث أناه،أو مجهودا عصاميا يؤكد من خلاله وضعه الاعتباري و يخلي عبره مسؤوليته الأكاديمية.المكون الثاني يتمثل في الموارد المادية،فالبحث العلمي لم يعد ترفا فكريا يعن لبعض العلماء فتسيل مفرداته كما تسيل القوافي لبعض الشعراء،و إنما أصبح استثمارا يتطلب بلغة المال و الأعمال و بفلسفة المشروع و بمنطق المنظمة ميزانيات من اللازم البحث عنها،و هنا بحث آخر لا يقل صعوبة و تعقيدا،لكن لا بد للمجتهد من نصيب.

أبدا لم تكن اللغة العربية في حاجة إلينا بقدر حاجتنا إليها،و هي الآن حاجة الحاجات في منظومة التربية و التكوين المغربية،و الحاجة كما هو معروف أم البحث.

على أي الحديث ذو ملغاة...

هسبريس