العاميات وبقاء الفصحى - ستار أكاديمي - يا ستّار

أ.د. محمد الدعمي

لم يحدث أن حظي موضوع بالاهتمام بقدر ما حظي به موضوع اللغة العربية، وسائل حمايتها وإشاعتها، في المؤتمرات والكتابات والحوارات والمنتديات وما شابه من الأنشطة الفكرية الجماعية، تحت سقف زمني طويل نسبياً: ابتداءً مما يسمى بـ"عصر النهضة" حتى اللحظة. فلا يمر شهر إلا ونقرأ مقالاً أو دراسة في هذا المحور ، بعضها استرجاعي أو مجتر مكرور، خالٍ من الجدة والتجديد والإضافات أو الإغناءات الجادة، لأن أغلب هذه الأنشطة لا يزيد عن صدى لما أعلنه عمالقة اللغة العربية وآدابها من أمثال طه حسين (مصر) ومصطفى جواد (العراق)، من بين آخرين ؛ وبعضها الآخر بقي حبيساً بحدود "تقليديات" ما قدمته مجامع اللغة العربية، بين دمشق والقاهرة وبغداد. ثمة من إختار أن يعين نفسه حامي حمى اللغة العربية وحامل بيرق الحفاظ عليها ونشرها بين الأعاجم عبر البحار السبعة. لذا بقي هؤلاء يدورون في فلك ما قيل سابقاً، علماً أن بعض ما قيل يعود إلى أواسط العصر العباسي، مع بروز ما يسمى بالحركة الشعوبية التي ركزت على "مثالب العرب"، تعسفاً، وبضمن هذا الميل العنصري الشوفيني اندرجت النظرة الدونية للعربية، بالرغم من أنها لغة القرآن الكريم ولغة الرسول محمد بن عبد الله (ص)، وحسب معتقداتنا الدينية هي لغة "أهل الجنة".
إن أية مراجعة لهذا النوع من الأدبيات حول "اللغة العربية الآن" لابد أن تؤشر حقيقة أن أغلب ما كتب كان قد انجرف مع متطلبات "المودة" أو التقليعة السائدة، إن صح التعبير، حيث صار الحديث عن العربية وعن وسائل حمايتها وإشاعتها جزءاً من الوطنيات والقوميات التي غالباً ما تنحو منحى يفضي إلى وضع اللوم على كاهل "الاستعمار" و "الإمبريالية": وهكذا صار الموضوع معياراً للوطنية ومؤشراً للقومية، وأداة للإدعاء بهما حتى وإن كان الإدعاء مزيفاً.
لهذه الأسباب وتأسيساً على تيارات العواطف الوطنية والقومية الجارفة، عمدنا إلى "نظرية المؤامرة"، متخيلين أن هناك خبراء في لندن وآخرين في باريس، سوية مع زملاء لهم في تل أبيب وواشنطن يسهرون الليالي في جهود جهيدة للتآمر على اللغة العربية من أجل القضاء عليها وإحالتها إلى متحف الكائنات المنقرضة! إلاّ أن هذا النوع من العواطف الرائجة السوق في بلداننا بين المشرق والمغرب العربي الذي لم يزل يئن تحت رحمة الفرنسة و(الأسبنة والطلينة)، لم يخدم غرضاً علمياً أو عملياً محدداً. هذه هي الحال ، للأسف ، ولكن ما يزيدها مدعاة للأسف وللاستنكار أحياناً هو إسهامنا، نحن العرب الأقحاح في الإساءة للغتنا وإضعاف الإتجاه نحو اعتمادها وسيلة أو قناة عربية أو شاملة للتواصل وللتفاهم. ليس ما أذهب إليه هنا بمبالغة بقدر ما انه مستوحى من التجربة المباشرة عبر سنوات ومدد متنوعة الطول من التعامل مع أخوة لي في الجنسية والقومية دون أن أفهم لهجاتهم أو أن اشعر بعدم الحاجة إلى "مترجم" يشرح لي ما يقولون بلهجتهم المحلية، إن في مراكش بالمغرب أو في لبعوس بمحافظة يافع (اليمن)، حيث ذهبت استاذاً زائراً لكلية التربية (جامعة عدن، 2002) فقرأت القطعة التالية معلقة على أحد الجدران: "لدينا قرف للإيجار"، ففهمت بعد التمحيص وتقليب الرأس أن المقصود هو: "لدينا غرف للإيجار". ثم بعد استفسار وسؤال أدركت ان اخواننا في هذه المحافظة اليمنية يقلبون الغاء قافاً، كما يفعل إخوة آخرين بأقطار عربية أخرى في لهجاتهم الدارجة، وكذا الحال في البقاع الريفية النائية عبر مختلف أقطار عالمنا العربي .

وللمرء أن يفترض في سياق مثل هذا ان هناك العديد من الانشطة والأفعال الجارية اليوم عبر العالم العربي التي يؤدي تواصلها إلى هدم صرح اللغة العربية الفصحى، أداةً للتواصل وقناة للتفاهم، على نحو أكثر سلبية مما نتخيله من مؤامرات أجنبية و "استعمارية"، نفترضها ثم نبني ونؤسس عليها إلى ما لا نهاية: يوم أمس قرأت "أخبار الساعة"، كما يقال، على صفحة واحد من أشهر المواقع الإخبارية الإلكترونية في العالم العربي، ثم ذهلت لملاحظة أن هذا الموقع يشجع نشر تعليقات القراء وآرائهم باللهجات الدارجة المحلية (ربما بحجة عدم التدخل وبذريعة الحياد الصحفي)، درجة إخفاقي في فهم ما يكتبه صاحب التعليق. وهكذا تخرج من صفحة هذا الموقع وانت مرتبك ومضطرب متنقلاً بين اللهجات الدارجة vernaculars العراقية (بتفرعاتها ، ثم الشامية بتفرعاتها اللبنانية والأردنية والفلسطينية والسورية)، ثم المصرية (بتشعبها السوداني)، ناهيك عن اللهجات dialects المغاربية الممتد استخدامها بين الجماهيرية الليبية شرقاً وساحل المحيط الأطلسي غرباً، متقلبة بين آثار الفرنسة والأسبنة والطلينة، ناهيك عن أعباء الدعوات إلى إحياء الأمازيغية!

29/5/2009

صحيفة الوطن العُمانية