|

لغتنا الجميلة
أ. زاهي وهبي
أمس، في إحدى المدارس اللبنانية الخاصة وقفتُ متحدثاً، أمام طلاب المرحلة الثانوية، عن اللغة العربية وأهميتها وضرورة إتقانها، وذلك انطلاقاً من تجربة شخصية في الكتابة والإعلام. فرحتُ لأن مدرسة خاصة غير رسمية تُخصص يوماً للغة العربية مشجعةً تلامذتها على توطيد علاقتهم بها قراءةً وكتابةً ومحادثةً، لكن ما أحزنني حالٌ من الغربة تجلت واضحةً في أعين غالبية التلامذة الذين بدوا وكأنهم في عالم لا آثر فيه للغة الضاد ولا تأثير، حتى أن بعضهم، حين فتحنا باب طرح الأسئلة، لم يكن قادراً على صوغ سؤاله كاملاً بالعربية، فيلجأ إلى تطعيمه بكلمة إنكليزية أو أكثر.
هذه الآفة، آفة عدم التمكن من لغتنا، تتكرر في معظم المدارس الخاصة ليس فقط في لبنان، بل في أنحاء الوطن العربي كافة، نركّز على الخاصة لأن المدارس الرسمية أو العامة تبدو أفضل حالاً لجهة العلاقة باللغة العربية، وإن لم تكن كذلك لجهة أمور أخرى كثيرة من بينها تراجع مستواها العام ما يدفع معظم الأهل المقتدرين إلى تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة تجيد الاهتمام ببرامجها ومناهجها وأساتذتها لكنها تهمل للأسف العربية ولا تشجع تلامذتها على إتقانها، بل إن بعضها يبدو عامداً متعمداً إقصاء العربية عن ذويها، (دائماً نتجنب التعميم والأحكام المطلقة إذ يظل ثمة استثناءات هنا وهناك، في الخاص وفي العام)، بينما الوزارات المعنية غائبة عن الوعي والسمع.
من جملة ما قلته على مسامع التلامذة أن اللغة ليست مجرد أداة أو وسيلة تخاطب ومحادثة، إنما هي إكسير حياة، نتنفسها ونحياها، بها نُحب، نفرح، نحزن، نتألم، نشتاق...إلى آخر الحالات الإنسانية التي يمر بها الكائن البشري الذي استنبط الأبجديات وطورها على مر الأيام حتى باتت كل لغة عنواناً لهذه الأمة أو تلك، ودليلاً إلى علومها وآدابها وفنونها وما تنتجه من معارف وإبداعات. جميل جداً أن يتقن الإنسان أكثر من لغة، والعرب حثّت كثيراً على هذا الأمر معتبرةً اللغة لساناً، أي إنساناً، بمعنى أنك كلما أتقنت لغة جديدة أصبحت إنساناً جديداً، فمَن يُجيد أكثر من لسان هو حكماً أكثر من إنسان واحد، ليس لأنه يستطيع فقط التحدث والقراءة والكتابة بلغة أخرى، بل لأنه قادر على الحياة في رحم ثقافة أخرى. حقاً، اللغة رحم يتكون فيها وبها كلُّ ما يُشكّل هوية هذا الشعب أو ذاك.
مهمٌ جداً إتقان لغات الآخرين، لكن الأهم عدم التخلي عن لغتنا الأم. لنلاحظ هذه التسمية: اللغة الأم، وُضعت اللغة في مصاف الأم التي تحتل مرتبتها السامية في مختلف الثقافات والمجتمعات. حين نقول اللغة الأم فهذا يعني أن ثمة صلة رحمية بيننا وبينها (اللغة)، ومَن يعشْ غربةً عن لغته كمن يترعرع بعيداً من كنف أمه، مع ما ينجم عن هذا الأمر من آثار وندوب نفسية ومعنوية لا تمحوها الأيام مهما تقادمت.
سأل أحد التلامذة: كيف يمكن أن نقوّي أنفسنا بالعربية؟ كانت إجابتي، وعلى حد زعمي، أن الوصفة الأهم لذلك هي القراءة، فمن خلالها نثقّف أنفسنا وفي الوقت عينه نوطد علاقتنا باللغة، نكتشف تباعاً، كتاباً تلو كتاب أسرارها وسحرها وبيانها وبديعها، ونثري قاموسنا بمفردات جديدة وأساليب متنوعة، والأهم ألا نقرأ بداعي الواجب، كلُّ ما نشعر أنه مفروض علينا فرضاً ننفر منه، هذه فطرة إنسانية، لنقرأ بداعي المتعة والتسلية، وليقرأ كلٌّ منا ما يحبه ويلائم هوى نفسه، إذ إننا حين نقرأ بهاجس المتعة والتسلية سنُقبل بشغف عارم على القراءة، ومع الوقت سنكتشف أن ما اعتبرناه مجرد متعة وتصريفاً للوقت إنما صار زاداً معرفياً لا ينضب.
هي «لغتنا الجميلة» ( بالاذن من الشاعر فاروق شوشة صاحب البرنامج الإذاعي الشهير) سنظل نُذكّر بها وبما يمكن لها أن تهبنا من سحر وجمال ومقدرة على فتح الأبواب الموصدة، ومقارعة كل أشكال الجهل والتخلف.
الحياة
|
|
|
|