أحد عشر كوكبا يضيئون المشهد الشعري في مصر

أ. أحمد سراج


 الشعر إنسانٌ؛ لذلك فإن أية محاولة لإثباته لدى شعب دون شعب، أو جنس دون جنس هي ضرب من الانحياز غير الأخلاقي، فالشعر يذهب عميقًا كماء في الأغوار يخرج في كل مكان من مكان، الشعر ذلك المجاز المواجه للحقيقة والحامي لها.. كيف يواجه الشعر الطغيان وهو حقيقة؟ كيف يحفظ الشعر أنة ضعيف في مواجهة طاغية.

كما تقول الحكاية فإن وكالة ناسا أرسلت مختبرًا فضائيًا يسافر عبر النجوم ومعه رسالة مرسومة على صفيحة ذهبية لرجل وامرأة، وبجوارهما تمثيلات بيانية أخرى لما على كوكب الأرض.. لكن لو افترضنا أن هناك كائنات حية بالفعل، فلا بد أن تكون لها عيون كعيوننا، وعقول كعقولنا.. ومعرفة سابقة بنا.. فكيف لهذه الكائنات أن تعرف أننا بشر.. وأن هذا ذكر وهذه أنثى.. هذه الرسالة لو تخيلناها مسموعة كتبت في مصر.. وأرسلت إلى كندا.. من سيفهمها إن لم تترجم؟ ثم كيف سيعرف جنسها الأدبي؟ بل كيف لرجل عامي من لغتنا أن يفهم القصيدة ويدرك ما بها من جمالٍ.. الشعر إذن رسالة عُرفية لها أهلها في الكتابة بما يمتلكون من موهبة وثقافة لصقل هذه الموهبة.

يشاع أن أول شعر عرفته العربية كان في العصر الجاهلي، ويشاع أن هذا العصر يبدأ قبل مائة وخمسين عاما من البعثة النبوية، والحقيقة أن هذا هراء وتقسيم مجحف بحاجة إلى إعادة نظرٍ من الأكاديميين الذين يدرسونه؛ فهل بدأ العرب قبل مائة وخمسين عامًا؟ ألم يجايل هوميروس سكانًا في الجزيرة العربية؟ ويشاع أن آدم عليه السلام قال شعرًا بالعربية؟ ويقال بأن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية؟ يشاع كثيرًا من أجل تدعيم مكانة الشعر والعربية والحق.. أن لغة كالعربية وجنسًا كالشعر ليسا بحاجة إلا إلى قولة واحدة: اللغة العربية إحدى اللغات الإنسانية التي نمت وتطورت وجاءها القرآن فكان غيثًا تركيبيا ومعنويا، أما الشعر فهو الإنسان مذ كان.

بحثنا عن الشعر إذن هو بحثنا عن الإنسان، ولعل اطلاعنا على الإلياذة والأوديسة لا ينفصل عن اطلاعنا على ما قاله أغربة العرب أو شعراؤها العشر أو طبقات اين سلام أو مفضليات الضبي، بل إنه وثيق العرى بما كتبه توماس سيرث إليوت –الشاعر الرجعي العظيم –لا فرق بين شرق وغرب؛ فهناك نصٌ عرفي، وهناك قراء يحاولون إنتاج الدلالة من هذا النص.

هل الشعر الآن في أزمة؟ قفزة هائلة لكنها واجبة.. كل فن في أزمة بدرجة ما.. الكل الآن يكتب الرواية.. أو كما قال توفيق الدقن في فيلم الشيطان يعظ: "كله عاوز يبقى فتوة.. أمال مين اللي حينضرب".. قليلون يقتربون من القصة حتى يناير 2014، لا ناشر يطبع الشعر، ولا موزع يقبله –الاستثناءات لا تصنع قاعدة، والنصوص التي تنشرها كبريات دور النشر لا تلقى الارتياح من جمهور الشعر وكتابه –لكننا هنا في أزمة الشعر.. من أين جاءت؟ وكيف تعالج؟

يرى علي عشري زايد أن الأزمة في الشاعر الذي يضرب في الأفق كالسندباد، ويريد من القارئ أن يشاركه في مغامرته بالكامل، وفي القارئ الذي يشبه نديم السندباد فهو يريد أن يظل في مكانه ويحصل على كل شيء، ثم هي في الناقد الذي يمثل جسر التواصل بين الناص والمتلقي.. لكن الأمر الآن أبعد غورًا.. فثمة فنون بصرية كالسينما والتلفزيون تستحوذ على انتباه المتلقي، ويكفي أن تتابع حوار فيلم كأرض الخوف لأحمد زكي، أو طروادة لبراد بيت أو العقل الجميل لراسل كرو أو الميل الأخضر لتوم هانكس.. لتدرك الأمر... الأمر أبعد غورًا بين تعليمٍ على يد أبناء العقاد وطه حسين والرافعي، تعليم كانت أم المصريين هي صفية زغلول.. بين تعليم على يد أبناء كامب ديفيد والانفتاح الاقتصادي، والانسحاق الكامل للغرب.

في ظل هذه التحديات، تجد الشعر المصري، مستمرًّا في محاولته التي عُرف بها: الأصالة والمعاصرة؛ فمصر لا تتخلى عن النص العمودي، ولا تهمل النص التفعيلي، ولا تطرد قصيدة النثر.. تتجاور الأنواع في رحابة –عكس تصارع الشعراء على ما ليس شعرًا فحضور ندوة أو طباعة كتاب أو رئاسة لجنة للشعر ليس من الشعر في شيء –ولعل أكثر الأشكال حداثة –زمنية –هي قصيدة النثر، لكنها إن فقدت شرطها الإنساني: التعبير عن صاحبها.. ومنه تاريخ الفرد وأمته بالتبعية، وفي هذا وشائج بالماضي باعتباره مكون هوية يسعى الناص للعثور عليها وتأكيدها- أقول إنها إن فقدت ماضينا فقدت موجبها وموجهها..

ليس هذا فحسب فالقصيدة التفعيلية والعمودية –باعتبارهما نوعين كلاسيكيين –يخوضان معركة مع الحداثة بمفهومها الفني في أبسط صوره(التجديد والتطوير والمواكبة) ومع اهتمامها بقصايا الإنسان الكبرى لا تسقط من حساباتها ما يجري الآن وهنا.

وفي مصر ثمة تنوعٌ  لافتٌ؛ فللقصيدة العمودية الحديثة (الآنية أقصد) كتابها وجمهورها، وللتفعيلية ولقصيدة النثر ذلك أيضًا.. إنه تجاورٌ يليق بالفاتنة باذخة الحسن الجغرافي والتاريخي، هذا التجاور الذي يجعل رجل عامي ينجذب لقصيدة لجيمية ابن الفارض إذ يتلقاها عن يس التهامي، وتجعل عجوزًا تعيد شبابها وحريتها وهي تترنم بشعر أمل دنقل.

ما تقدمه هذه النماذج هو نافذة على هذا التنوع بما يحاوله من إثبات وجود الشعر، وتأكيد جدارته بهذا الوجود وتلك الهوية، ما تقدمه هو نافذة على تجليات الوجع المسمى بالإنسانية، وسواء اختلف بعضنا مع الإيقاع العمودي واعتبره نحاسيًّا، أم اختلف مع الإيقاع التفعيلي باعتباره راقصة على السلم –فلا هو أدرك الحداثة الكاملة ولا هو تمسك بالنهج الذي اختار أن يتبعه –أم أنكر شعرية قصيدة النثر صارخًا: أين ما يفرق هذا عن النثر.. بإيجاز أقول: ذلك مما صنعت أيدي شعرائنا.

ولئن كانت القصيدة حياة تعيش بماء المجاز؛ ولئن عد الناس الشعر سحرًا لأنه يخيل للناس ما يقرؤون على أنهم يرون، فهنا تجد السحرة  - لا يفكون شفراتهم ولا يجيبون عن أحاجيهم –يتحدثون في بساطة ودون مجاز –تقريبًا –عن مغامراتهم كما يليق بإنسان.

المشهد