اللغة سياسة

د. علي عبد القادر

 أحسب أن حافظ إبراهيم لم يجانب إلا الخطأ، ولم يقل إلا الحق، حين قال: "وكم عز أقوام بعز لغات". و أتذكر أني وقفت أمام هذا المبنى البلاغي الجميل، وتأملت معناه، رابطاً بين عزة الأقوام وعزة لغاتهم، مسلماً بالفرضية والفكرة، متسائلاً عن أيهما يمثل السبب، وأيهما يكون النتيجة.

ولأن اللغة سياسة، كما هي فكر، وتواصل، ومعرفة، وعلم، واقتصاد، وتربية. فإن النجاح في امتلاكها، يمثل قدرة على القيادة، فمنذ العصر الجاهلي كان لسان قريش موحِداً للعرب، بسبب القوة السياسية لقريش والمكانة الدينية لأم القرى. وكان سوق عكاظ محفلاً اجتماعياً يجمع بين السياسة والاقتصاد والعلم، واللغة شاهد مشهود ووسيط منصف وحَكَم عدل. وحين نهضت الحضارة الإسلامية العربية وشرقت وغربت كان اللسان العربي هو الأداة وهو الأيقونة التي ترسخ للتفوق الحضاري.

وما تزال اللغة كما كانت مع أصحابها تعلو إن علو، وتسفل إن سفلوا، قاعدة تخضع لها رقاب الشعوب وألسنتها. لا كرامة فيها لجنس أو عرق. والتاريخ يشهد: عرقيات عريقة ذابت حين تخلت عن لسانها. وأجناس غير متجانسة جمعتها اللغة فبنت حضارة. لغة ميتة أحياها قومها لغرض سياسي فحيوا وحيت. ولغة حية يستحيى أصحابها منها فصارت تصارع الفناء.

والعربية لن تشذ عن هذه المسلمات، وإن كانت تقبل الشذوذ عن القاعدة نحواً وإملاء وصرفاً وشعراً. العربية في هذا الزمن خارج الزمن، ومكانها حيث لا مستقر. مقاربتها من الناحية السياسية، تقدم خطاً زمنياً وقراءة تاريخية لوضع الأمة. مجامع اللغة العربية كانت من القوة بمكان حين كانت الدول التي ترعى هذه المجامع لها مكان من القوة. اليوم من يريد أن يعرف الدولة العربية التي تقود سياسياً، فليتتبع المبادرات التي ترسم السياسة اللغوية. ذلك لأن اللغة سياسة، والسياسة لغة. ومن يتقن رسم سياسة اللغة العربية، يسوس الأمة العربية.

السياسة اللغوية هي كلمة السر في نهضة الأمم، وغيابها يعني العدم. هي الحل الأمثل والأسهل والأفضل، هي المبتدأ في الإصلاح والخبر الذي يعني النجاح، هي الفعل المحرِّك، والفاعل المتحرك، هي صلة الموصول التي نعيد بها ما انقطع من تاريخ الأمة، ونترقب بسببها ظهور ضميرها الغائب.

24