
عبد الوهاب المسيري و مسألة الحفر الأركيولوجي في الأسس الٳتمولوجية و الثيولوجية للعلمانية
أ. مراد ليمام
استهل عبد الوهاب المسيري مؤلفه ( اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود ) ، بمقدمة عبر من خلالها عن جدة الموضوع الذي سيتناوله، طارحا في الآن ذاته الهيكل العام الذي يستوحي من منجزه تصوراته في إطار مقاربة نسقية ، تتوخى إضفاء نوع من الوحدة والتماسك على مختلف الحقائق الثقافية المرتبطة بالظواهر الإنسانية. إذ ينطلق الكاتب في مقاربته من سيادة الاعتقاد القائل بأنه يوجد نموذج معرفي، بمثابة الإجراء التوليدي الكفيل بتفجير مختلف ينابيع البنى الرمزية التي يهبها الإنسان للظواهر. والنموذج برأي الكاتب هو ذاك الواحد الكثير في مرائي مراياه، الذي تنتظم وتصطف بداخله تلك التعددية وفق نوع من المعقولية الداخلية، يكون فيها كل من الإله والطبيعة قطبي الرحى أما مركزها فهو : الإنسان. فهذا الأخير عنصر التوسط الإلزامي من شأنه صياغة الواقع وفق بنية تصورية ترادف رؤية الإنسان للكون، تعكس هذه البنية نموذجا معرفيا من بين نماذج معرفية أخرى (من تصور الإنسان).
وفي إطار السعي الحثيث لتعقب هذه النماذج، ينطلق الكاتب من فرضية مفادها أن هناك ترابطا بين اللغوي والديني والنفسي، على اعتبار أن الصورة المجازية أداة للتعبير وللإفصاح عن رؤية الإنسان للكون من جهة، ووسيلة للانتقال من اللغوي إلى الديني (رؤية الإله) إلى النفسي (مضمون الإدراك) من جهة أخرى.
فمهمة الصور المجازية تتمثل في ربط الإدراك الإنساني بالظواهر الإنسانية المجردة. فالإنسان يدرك العالم انطلاقا من صور مجازية تعبر عن نماذج إدراكية تفصح عن رؤى معينة للكون عبر ثلاثة محاور مترابطة ومتشابكة (الإله- الطبيعة - الإنسان) تعتبر وجوها من وجوه التعبير عن نفس الظاهرة. وما التسميات والتعريفات والمصطلحات والمفاهيم إنما هي تعددية تشير إلى إحدى النماذج المعرفية، التي ترادف كل منها رؤية ما للعالم. و بذلك كان معنى المجاز و وظيفته لا ينحصران في إضفاء بعد جمالي على مستوى التعبير، بل يمتدان ليكونا مجال فاعليته، بالانتقال من العلاقات اللغوية الداخلية (الدال) إلى العلاقات اللغوية الخارجية (المدلول). و يتحقق ذلك ضمن مجموعة من الاختيارات التي يرتبها ترتيبا يسمح له بتقريب المسافة بين الدال والمدلول، عبر الاشتراك القائم على علاقة تسمح بالانتقال من مستوى المعنى اللغوي إلى مستوى الإحالة المجازية. وبذلك يتم الانتقال ضمنا من مستوى ما وراء المعنى إلى مستوى ما وراء الطبيعة. في هذا السياق المزدوج يتم التأكيد على تكافؤ النقلتين معا: الأولى: نقلة استعارية من الحرفي إلى المجازي، والثانية: نقلة ميتافيزيقية من الحسي إلى ما وراء الحسي. من هنا يصرح الباحث أن هناك تواقتا بين النقلة من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، والنقلة المصاحبة لها من المعنى الظاهر إلى ما وراء المعنى، يصبح عندها المجاز وصورهُ "أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة" (ص18).
من هذا المنطلق حاول المؤلف تعقب تتابع الصور المجازية وتتاليها في النموذج المعرفي للفكر الغربي بالانطلاق من لحظة الولادة المزدوجة لمصطلح (Logos). فالمصطلح يحيل من ناحية على معيار عقلي خالص، قائم على البرهان كذلك الذي يستعمله الرياضي فتكون النتائج مستنبطة بطريقة برهانية لا تتنافى مع المنطق. وقد أعطى التحول الكبير في مسيرة العقل- القرن 17م- خاصة في وجهته العلمية: الحداثة. إن توجه (Logos) نحو العالم ليعيد تشكيله وتنظيمه وفق مبادئه الخاصة بصفته ذاتيته مكن من فهمه تمهيدا للسيطرة عليه، وهذا التوجه يرادف برأي الكاتب النموذج الآلي. أما من ناحية أخرى، فيحيل مصطلح (Logos-spérmaticus) على تلك الكلمة- بمنزلة البذرة أو المني- التي من شأنها أن تصب إكسير الحياة في العالم محدثة نموا وتغيرا. وخلف هذا التعريف يتوارى العقل ليحل محله اللاوعي والشعور والعاطفة. فهذه العناصر الأخيرة، تجسد لحظة ولادة الحركة الرومانسية في بدايات القرن 19م (هيجل، شليجل...) وترادف النموذج العضوي الشمولي. ويرى الكاتب أنه مع بداية القرن 19م حتى الآن، بدا وكأن النموذجين السابقين (العضوي الشمولي والآلي) قد امتزجا: فالعقل يقرأ الطبيعة ويحاول ضبطها حتى تتوافق مع الإنسان، ويقرأ بالطريقة نفسها المجتمع ويعيد إنشاءه تبعا لمقاصده. ولم تفلت الذات من هذه القراءة ومن أن تكون موضوعا قابلا للضبط وفق مقتضيات العقل. فقد كشف الفلاسفة عن ميول الإنسان العارف إلى السيطرة والنفوذ، فرأوا هذا الائتلاف بين دوافعه اللاعقلية والعقل نفسه (أمثال هيجل وماركس).
أما بخصوص صور فلاسفة اللاعقلانية (نيتشه، شوبنهاور...) الذين فضلوا الانفعال والشغف والإرادة على العقل، فقد دفعوا بالفكر نحو الحياة باعتبارها حركة متطابقة مع الكون. ومعنى هذا الأخير، يجب البحث عنه في العالم المعطى أي في الحياة. فعبرها ومن خلال التجربة الفعلية يتم تشييد صلاحية الكون في العالم. الأمر الذي يطرح سؤال العودة الجذري إلى الذاتية التي تؤدي إلى بلوغ المعنى النهائي للكون في العالم. أي وجود تعاقب دوري يسمح بالانتقال من العضوية المطلقة إلى الآلية، وكلاهما يخفي إنكارا لمقدرة الإنسان. وتعتبر البنيوية مزيجا تاما للنموذجين، فالبنية كل عضوي خاضع للقوانين التي تفرضها العلاقات بين العناصر المكونة له. غير أن هذا التناسق الداخلي يدرك بناء على نموذج هندسي خارجي عنه يهدف السيطرة.
من هذه المنطلقات، اختصر الكاتب صيرورة التحولات في الحضارة الغربية - داخل نموذجين (عضوي وآلي) - رمز إليها بأسطورة بروميثيوس، باعتبارها صورة مجازية للعلمانية . فبروميثيوس رمز الإنسان الذي انعتق من ثقافة المغيوب عن طريق العلم والنزعة الموصوفة بالعقلانية التي تربط عمل العقل بالنفعية أو العلمية المترتبة عليه٬ فتمكن من استعباد الطبيعة واسترقاقها حل معها الإله الإنسان محل الإله الميت. غير أن الأمر لم يدم طويلا، فتحول بروميثيوس إلى فرنكنشتاين الآلي ثم سيزيف...
و نود لفت الانتباه ٳلى ظهور صورة مجازية جديدة فقد معها العالم مركزه، ولم يعد بوسع الذات أن تقيم تفرعا ثنائيا بل أن تصل إلى وحدة أعلى من الازدواجية أو التحدد التضافري. بل أصبح العالم سديما، ليس للتعددية ذات أو موضوع إنما فقط تحديدات أو أحجام وأبعاد لا يمكن أن تزداد دون أن تتغير طبيعتها. ويمكن تسمية مثل هذا النظام ؛ جذمورا (Rhizome). وهو نبات له تعدديات أي كائن عضوي لا يتبع أي نمط.
بعد هذه اللمحة التاريخية للإشكالات الفلسفية المرتبطة بالصورتين المجازيتين في الحضارة الغربية (الآلية والعضوية). حاول المؤلف دراسة وتحليل الكيفية التي تولدت بها صورتان مجازيتان جديدتان (الجسد والجنس) من رحم الصورتين السابقتين. ولعل أول خطوة قام بها المؤلف هو الحفر في المتون والأسس الفكرية التي تفتقت عنها الصورتان، ناحتٌا في الآن ذاته مصطلحا معبرا عن هذه النزعة: (الجنينية). إذ تختزل تعددية العالم في مبدأ واحدي بسيط، فهي حركة اختزالية حددها المؤلف في الجسد والجنس. ومنطلقه في ذلك فلسفة شوبنهاور التي آثرت الانفعال وفضلت إرادة الحياة على العقل. فما عاد له الكلمة الفصل في الحقيقة والعالم بل دخل الجسد الذي تم استبعاده طويلا خارج الحقل المعقود للعقل. إن رفض شوبنهاور موضعة الجسد في الإطار الهامشي جعله يدفع بهذا الجسد للإفصاح عن عملية إٍرغامه للصمت طويلا بموجب الفصل الثنائي الحاد. من هنا أصبح الجسد المعادل الموضوعي لإرادة الحياة، اتخذت شكل ثورة جنسية تعلن تمردها على الجذر الأصم للوجود المتمثل في الموت.
إن هذا الافتعال الدرامي للجنس، هذه القناعة بأن للجنس قوة جذرية بقدر ما هي سرية تقهر الموت من جهة، وتنهي كل أشكال القمع التي فرضتها رقابة العقل (الثنائيات) من جهة أخرى، جعلا الكاتب يفصح عن بعض جوانب التفكير الفلسفي، يطفو عبرها الجسد باعتباره صورة مجازية نجملها في النقاط التالية:
اختزال الكائن الإنساني في جسد مادي طبيعي تحكمه الأهواء والنزوعات بعيدا عن حضارة القيم والهوية.
انطلاق الفلسفات العضوية ذات النزعة الجنينية من فكرة أن الجسد صورة مختزلة ومصغرة للعالم، حيث تكاد المسافة بين الاثنين تنمحي.
مركزية الجسد في العديد من الفلسفات الحديثة حتى ليبدو أن حدس الحياة في إطار الحواس الخمس هو مصدر كل واقع تبدأ عنده المعرفة. فالإنسان هنا يعرَّف برغباته وحاجاته، وتزداد هذه المركزية في الفرويدية.
بروز الجسد كصورة مجازية في الفلسفة الفينومينولوجية خصوصا عند ميرلوبونتي . تفصِحُ دعوته عن مقاربة الأشياء والعالم ليس فقط من وجهة نظر الذهن، إنما الجسم الإنساني بكامله وبكل ملكاته. هذا الكل من الكائن الذي يأتي كوننا الخاص ليندرج فيه في كل اللحظات، بمعنى في كل ما يمكننا أن نكون عليه ونقوم به، والذي لن يكون كذلك من غيرنا، بل يحتاج لينمو لكوننا الخاص. من هنا تحمل علاقتنا به معنى مزدوجا، الأول: بناء عليه نحن نخصه والثاني: بناء عليه هو يخصنا. إنها دائما علاقة متبادلة بين الكون في جملته ونحن، ويتحقق ذلك (برأي الكاتب) انطلاقا من مفهوم الجسد المعيشي عند ميرلوبونتي.
حلم أنصار ما بعد الحداثة في التحام الذات بالعالم وكلية الحياة، بحيث لا مجال للشرخ بين الفكر والواقع أو الدال والمدلول (النزعة الجنينية).
المعرفة السابقة كانت تتوخى إضفاء نوع من المعقولية والتنظيم على الواقع، بخلاف المعرفة الحالية التي تهدف اللعب والرغبة حسب ميشيل فوكو.
الانفلات من قبضة السيطرة الذكورية والاحتفاء بأدب نسوي يمثل فيه النص جسد امرأة والتناص حركة أنثوية.
الإيمان بالحتمية والنسبية أي النزعة الجنينية التي تضعف الهوية وتزيل عن الإنسان عبء الاختيار الخلقي.
انهيار مؤسسة الزواج التي فصلت النشاطات الجنسية المشروعة عن غيرها، أدى إلى ثورة جنسية أنهت كل أشكال الثنائيات لتعلن ميلاد الحالة الجنينية.
بعد التأسيس النظري والتتبع الدقيق للصورتين المجازيتين في الحضارة الغربية الحديثة، يتم الخفر في صورة الجنس المجازية انطلاقا من الأسس الثيولوجية في الحضارة الغربية.
على هذا الأساس، يعالج الكاتب الصورة المجازية الجسدية والجنسية انطلاقا من الثيولوجيا اليهودية التي تصل ذروتها في كتب الفكر القبَّالي. وهو فكر صوفي قائم على الشطحات والسبحات الباطنية الماورائية، ينزع نزوعا حلوليا نحو تقريب المساحة بين الخالق والمخلوق وبين الإله والكون . ٳذ تعكس كتب القبَّالاه مجموعة من التفسيرات والتأويلات الصوفية التي تنزع نحو تضييق المسافات بين الثنائيات، بدعوى الامتزاج والاتحاد بين الإله والقبّالي حتى يتسنى لهذا الأخير الحصول على المعرفة التي تمكنه السيطرة على العالم. وعلى الرغم من أن هذا النمط من التفكير أو التدين يخالف تقاليد العهد القديم إلا أن بذوره الجنينية تعود إليه. تتخذ هذه البذور شكل صورة مجازية جنسية تُشبه تماسك أجزاء العالم بالجماع ٬ حيث الذات الإلهية تحوي عناصر الذكورة والأنوثة ما دامت علاقة الإله بالإنسان تتخذ شكل ذكر وأنثى في وضع عناقي.
ضمن هذا المنظور ٬ يرصد عبد الوهاب المسيري التجليات العشر الصادرة عن النور الذاتي الإلهي والتي أوجدت العالم٬ حيث التجليان الثاني والثالث يدخلان في علاقة جنسية خاصة تتحقق بواسطة التجلي التاسع عضو التذكير (القضيب). من هنا تناسلت صورة الابن والابنة المنفصلان. تتحدد دلالاتهما في تفسيرات التوراة والتي تعتبر جماعهما (الجنسي) إصلاحا للخلل الكوني. وقد شاع هذا التفسير القبَّالي في بداية العصر الحديث موازاة مع تصاعد العلمانية. إذ أصبح صورة مجازية محيلة على الحداثة بينما الجنس صورة مجازية لما بعد الحداثة.
بعد إبراز الأساس الثيولوجي والفكري لصورة الجنس المجازية يورد الكاتب تجليات هذه الصورة في الحضارة الغربية نختصرها في النقاط التالية:
تساوي الإله والمادة وبروز الجنس كصورة مجازية في الفلسفة الحديثة.
اكتساح الجنس للنظرية الأدبية بتمركز النظرية النقدية حول الأنثى: إذ يربط مفكرو ما بعد الحداثة بين اللغة العقلانية والذكورة من جهة، واللغة المجازية والأنوثة من جهة أخرى.
تغيير مفهوم النص، أصبحت فيه الصورة المجازية هي اللذة الجنسية والرغبة.
تعويض قيم الحب بمفهوم اللذة أصبح حينها الجنس يستخدم في بيع السلع.
انطلاقا من هذه التجليات يميز الكاتب بين المادية الصلبة المتجسدة في عبادة الجسد، والمادية السائلة المتمثلة في عبادة الجنس.
من هذه المنطلقات التحديدية ٬ نعاين بجلاء وجود نوع من الترابط بين اللغوي والديني والنفسي ينبغي عبره دراسة الظواهر في تشابكها وتركيبها بعيدا عن الرؤية الاختزالية التي تسقطنا في التفسير الأحادي الذي يختزل الثنائيات في الطبيعة والمادة أو في التفسير العلمي الموضوعي الذي يفصل بين المجالات المختلفة للنشاط الإنساني حيث يستدعي كل مجال قوانينه ومعاييره الخاصة.
|
|
|