|

لغة روائية هجينة
أ. عبده وازن
تقرأ في أحيان، بضع روايات عربية، فتشعر أن اللغة التي كتبت بها هي أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، بل إنها ليست فصحى ولا عامية، لغة «هجينة» إن أمكن القول. هذه اللغة التي تكاد تطغى على أعمال روائية كثيرة يتبناها أصحابها من دون تردد ولا حرج، غير آبهين لما يقومون به من هدم لأصول الكتابة وقواعدها. هل هذا ضرب من تطوير اللغة الروائية وفتح أفقها على اللغة اليومية الحية وكسر جمودها وصلابتها وتحريرها من تقعرها الفصحوي؟ إنها حتماً مغامرة لا تخلو من الخطورة والجرأة واللامبالاة والعشوائية... فهؤلاء الشباب الذين لا يولون اهتماماً لما يسمى علم اللغة وقواعد الصرف والنحو، يريدون أن يكتبوا كما لو أنهم أمام الفايسبوك، وحلمهم أن تصبح الكتابة الروائية سهلة سهولة لغة «التواصل» الحديثة.
بات واضحاً جداً في العقدين الأخيرين انصراف روائيين عرب جدد عمّا يسمى «الهم اللغوي». غاية الكتابة الروائية في نظرهم هي أبعد من أن يأسرها نظام الصرف والنحو أو البلاغة والبيان. الرواية هي سليلة الحياة اليومية بشؤونها الصغيرة وهمومها وأسئلتها وليست ابنة المعاجم والفقه اللغوي. وهي تالياً تفتقر إلى لغة هي لغة الحياة نفسها، اللغة النزقة والنابضة والمنفعلة... هذه الآراء أصبحت رائجة وشائعة، وقد تكون مُصيبة وحقيقية لكنها لا تخلو من إشكال يمسّ جوهر الكتابة بذاتها بل لعلها تطرح أسئلة شائكة ومربكة جداً: هل يمكن الكاتب أن يكتب خارج نظام اللغة وقواعدها؟ هل تقوم كتابة في حال من الفوضى والخواء اللغوي؟ أليست الكتابة نقيض الكلام الشفوي كما قال علماء اللغة؟
كان الكاتب سهيل إدريس يرفض، بصفته صاحب دار الآداب، نشر كل رواية تحتوي مقاطع بالعامية أياً يكن صاحبها. الرواية إمّا أن تحافظ على لغتها العربية أو «هويتها» وإما أن تسقط في متاهة العاميات واللهجات، ما يعني وقوعها في حال من الاستلاب والانفصام. لكنه كان يغض الطرف عن الحوارات التي تتضمنها الرواية إن هي كتبت بالعامية. هذا الموقف لم يكن غريباً عن طه حسين ونجيب محفوظ وسواهما من الروائيين العرب الذين لم يستحسنوا البتة إدخال العامية في قلب العمل الروائي. بل إن صاحب «الثلاثية» شبّه الكتابة الروائية بـ «المرض» الذي يجب اجتثاثه. وهؤلاء الروائيون الرواد يبدون من أهل الاعتدال في شأن العامية إذا قيسوا بفقهاء اللغة العربية القابعين في مجامعها، والقمينين على «عروبة» الفصحى وسلامتها واستقامتها. لكنّ روائيين وقاصين –رواداً- عرباً ولبنانيين، خالفوهم الرأي وعمدوا إمّا إلى استخدام العامية في صلب صنيعهم الفصحوي، على غرار ما فعل يوسف إدريس، وإمّا إلى المواءمة بين الفصحى والعامية في لغة وسطى، سليمة ومعافاة، وغير هجينة أو «مستلبة»، وكان في مقدمهم توفيق الحكيم ويحيى حقي ومارون عبود وسواهم. وقد خلص هؤلاء إلى لغة بديعة وجميلة، عربية ومشوبة بروح العامية ومطعمة ببعض مفرداتها وعباراتها التي تؤكد تجذرها في وجدان الناس وأديم الحياة. وكان لهم أثر على روائيين طليعيين من الأجيال اللاحقة راحوا يطورون فنون السرد العربي.
هذه القضية، قضية العلاقة بين الفصحى والعامية، طرحتها قبل أيام الروائية المصرية منصورة عزالدين في مداخلة مهمّة لها ألقتها في ندوة «اللغة العربية اليوم وشبكات التواصل» التي نظمتها جمعية «أشكال ألوان» في بيروت وشارك فيها كتّاب من لبنان ومصر. بدت مداخلتها وعنوانها «بديل للفصحى أم غيتو لغوي؟»، جريئة بأفكارها وصريحة في مقاربتها مسألة قدسية اللغة، وسعت فيها إلى اقتراح أجوبة على أسئلة اللغة الروائية المعاصرة انطلاقاً من تجربتها الشخصية. وقد أصابت في إثارة مسألة العامية المصرية التي نادرا ما تخلو منها الرواية المصرية الراهنة، مميزةً بين «تطويع» الفصحى وتطعيمها بمفردات وتراكيب عامية والكتابة بلغة هي أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى. إنها الإفادة مما تسميه «دينامية» العامية التي تساعد الروائي على جعل لغته لغة حية، لغة لا تُقرأ فقط بالعين وإنما تحمل في قرارتها حاسة السمع التي تحفل بها لغة الحياة اليومية. وأصابت كثيراً في دعوتها إلى ما سمته حرية «اللعب» مع العربية في منأى من رقابة فقهاء اللغة وسدنتها ولكن من دون تنازل عن شروط الكتابة أو معاييرها.
الحياة
|
|
|
|