الشعر العربي بين الإلهام والأنغام

د. رزاق محمود الحكيم


    نشأت القصيدة العربيــــة في عمق الصحــراء ، حيـــن كان العربي في بداوته يمرن نفسه على التلاؤم مع نظــــام الطبيعة من حوله ، ويصارع قســـاوة البادية وجفافهـــا ، ومشقة السفر والرحيل ، بحثاً عن المال ، أو الماء والعشب والمأوى ، ولكنـــه وهو يقود قافلة الجمال ، ويمني نفسه بيوم سعيـد ، لاينسى أن يلتفت إلى مايحيط به من أشيــــاء ، فإذا رأى غزالا شارداً صوّب إليه سهمه، وإذا أحس بالخطـــــر أو اعترض طريقه حيوان مفترس جرّد سيفـه وتأهب للدفاع عن نفسه وعن مــــاله وعرضه . أما إذا رأى شجرات وماء وعشباً ، فقد تهلل وجهه بالفرح وصاح مغتبطاً بالحيــــــاة .
    إن نشــأة القصيدة العربية القديمـــة ابتدأ عن طريق الترديد والغناء والحــــداء في الصحراء، أو عن طريق الأناشيد والطقوس الدينيـــة التي يتقرب بهــا الناس إلى الآلهة ، مصحوبة بحركـــات من الأيدي والأرجل والرؤوس والأجسام ، كرقصــــات تخضع لنظام معين من الحركـة والسكون ،  وهـذا الانتظـام في الحركات والسكنات هوسرجمــــالها وجاذبيتها ، ومُثار إعجــاب الناظرين وبهجــهم . -
    أما اقتران الصوت بالحركـة وتموجاتها في نظـــام معين فقد  جعل الآذان والأبصار تعتاد عليه وتألفـه ، وتميل إليه مستأنسة به  ومرددة صــــداه غير أن هذه الألفـــة بين الأنغام والاذان قــــد تطورت شيئاً فشيئاً وأخذت نسقاً معينـــاً ، وتقليداً متوارثاً ، أصبح فيما بعد مطلباً أساسيــــاً ، وشرطاً من شروط النظـــــم في القصيـــدة حين ينشدها الشاعـر ، فتخفق لها القلوب وتستج لها المشاعر والأحاسيس .
    وليست الأنغام الشعرية إلا محاكاة لأنغـام الطبيعة من حولنا في خرير المياه وهدير أمواج البحر ودوي الرعد ، أو في حفيف أوراق الشجر وتغريد الطيور ، بل وفي حركــــة أقدام الجمال ، ووقع حوافر الخيــــل ، وقعقة اللجم ، وصليل السيوف ، وعند ذلك يتحد الصـــوت مع اللون ، والحركـــة مع الشكل ، ومن الحركـــــات المرئيــة والسمعية يتولد اللحن ، وتتوحـــــد في الإنسان عناصر الفن والحيـــــاة : ( وعندمـا يتحد الإنســـان مع الطبيعة وتتكامل فيه عناصر الحياة بثقافاتهــــا البصرية والسمعيــة ، وارتباطها بالتجاوب العصبي الإنساني ، عندما يتــم ذلك فإن الإنســـان يتمكــن من الرؤية حتى وهو كفيف ، ومن السمع حتى وهو أصم ، كما كان يرى طه حسين رؤية أكثر دقة وصحة وجمــــالا من المبصرين ، وكمـــــا كان يسمع "بيتهوفن" وهو أصـــم مالاتتمكن أذن أن تسمعه أو تستشفه من جمال ) 1
         لقـــد كان المتنبي عبقريــــاً حين لخص ذلك الاندمــــاج الوجداني  بين الإنسان والطبيعة في بيت واحد من الشعر حين قال :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي  وأسمعت كلماتي من به صمم
    وقبله قال بشار بن برد :
    ياقوم اذني لبعض الحي عـاشقة  
                                         والأذن تعشق قبل العين أحيانا      قالوا بمن لاتُرى تهذي فقلت لهــــــــــم
                                         الأذن كالعين توفي القلب ماكانا    وورث الشعراء العرب القدامى أوزان القصيدة ممن سبقوهم وألفت آذانهم أنغامها فنظموا على منوالها ، ومن أشهــر الأوزان التي استُخدمت في القصيـــدة العربية القديمة الرجـــز والكامل والبسيط والطويل والوافــــر والخفيف ، غير أن هـــذه الأسمــــاء للبحــور الشعرية العربيــــة وتفعيلاتها لم تُعــــرف إلا في العصر العباسي الأول ، على يد عالـــم اللغة المعروف الخليل بن أحمــــد الفراهيدي البصري ، المتوفى عام 174 هجرية ، وقيــــل إن الخليل اهتدى إلى وضع هـــذا الفن بمعرفة  علـــم الأنغام حين مر يومــــاً بسوق الصفارين بالبصرة ، فسمع دقدقـــة مطارقهـــــــم على الطسوت فأداه ذلك إلى تقطيع أبيـ،،ـات الشعـــر ، وفتح الله عليه بعلم العروض ، وسبب تسميته بالعروض أن الخليل وضعه في المحل المسمى بهذا الاسم الكائن بين مكــة والطائف . 2 وبنــــاء على ذلك فإنه يمكن تعريف علم العروض بأنه : ( صناعة يُعرف بها صحيح أوزان الشعر العربي وفاســـدها ، وما يعتريهــــا من الزحافات والعلل ) . 3
    إن الشعر وثيق الصلة بالموسيقى ، وقد كان الشاعر العربي القديم يعد القصيدة ، ثم ينشدها على مسامع الناس الذين يستحسنون منه قصيدته ، او لا . إن مسألة الإعجاب أو عدمه تعود إلى مسألتين اساسيتين همــا : الشكل والمضمون ن وإنما يستحسنون شكل القصيدة من ألفاظهـــا ، ومخارج أصواتها وأنغامهـــا وأوزانها وقوافيهــــا . أما المضامين والأغراض فتكاد تكون مألوفة لدى أجيال من الشعراء، وفي كل الأحوال يطالَب الشاعر بالجودة في المديح ، والهجـــاء والفخر ، والرثاء ، وغيــــر ذلك من الأغراض الشعرية المعروفة  .
    إن الإنشاد الجيد والإلقـــاء البارع يؤلف عنصراً مهماً من عناصر النظـــم في القصيدة العربية القديمة ، وحينئذ فإن النص النثري الذي يفتقد الأنغـام والأوزان ، يخرج من جنس الشعر ليندرج ضمن جنس النثــــر ، فالكلام إذاً وفق هذا التصور يتوجــــه وجهتين هما : ( الشعر والنثر ) ، فالشعـــر هو الكلام الموزون المقفى الدال على معنى ، كمــــا عرّفه قدامة بن جعفر ، وماعدا ذلك فهو نثر ، وكـــان العرب يفضلون الشعـــر على النثر لمزية الموسيقى واتصاله بالنفس والوجدان والإحساس . قال حسان بن ثابت :
          وإنما الشعر عقل المرء يعرضه          على البريــــة إن صدقـــاً وإن حمقا
          وإن أحسن بيت أنت قائلــــــــه          بيت يقال إذا أنشدته صدقـــــــــــــا
       لقد تفطن الشاعر العربي القديم إلى أهمية عنصر الموسيقى داخل النص الشعري وإن ذلك مما يحبب قصائده إلى الجمهور . أما القافية في النص الشعري العربي القديـم فلها دور سمعي تنغيمي تلائم مزاج النفس وتدخل السرور إليها ، ولذا فإنه ينبغي دراسة القافية مقترة بدراســــة الحدث ، وطبيعة الحالــــة الفسية للشاعر ، ولكن ضيق الشاعر العربي القديم بقيود القافية جعله يخرج عليها ولايبالي ، كما فعل أبو العتاهية في قصيدته المعروفة بذات الأمثال .