
اللغة العربية في أدائها الدبلوماسي
د. رشيد لحلو
لا شك أن جمعيات مدنية عدة في مجالنا الجغرافي العربي و خارجه نهضت من أجل غايةٍ نبيلةٍ ومشروعٍ مُلح يتمثل في دفع الأذى عن لغتنا السَّرمدية التي ظلت ، بخلاف أَلْسُنِ حضاراتِ الإنسانيةِ الأخرى ، حيةً عبر القرون المديدة ، وستبقى مُتألقةً وفي عنفوانها ما دام كتابُ اللهِ رافعها ، وما دامت تلبي مُتطلباتِ العصرِ من أجل عُمران البلادِ ومصالح العباد .
ومن فضل الله عليها أنه ، سبحانه و تعالى ، أقام لها عبرَ الأزمنةِ ، وما يزال ، رجالا ونساءً يَعتزون بالانتماء إليها ويَذودون عنها خَطَّوا لعملهم طريقا منيرا لا بد وأن يُؤديَ إلى نجاحٍ أكيد، ويُفضِيَ إلى تعرية التشويش حولها ، بهدفِ النيلِ منها ومن الناطقين بها، والتقليلِ من أهميتها .
لقد أخذت هذه الجمعيات على عاتقها ترسيخَ دورِ اللغةِ العربيةِ في مجتمعنا ، تأكيدا لثوابتنا الحضارية ثم وفاءً لإرث الأجداد الذين بهروا الإنسانية وأخرجوها من سُباتها بعلومهم الرياضية والفيزيائية والطبية والفلسفية والأدبية وغيرها وكذلك احتراما للتاريخ الذي يقر أن النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر وما بعده لم تبدأ إلاّ و كان قد اكتمل نقل وترجمة سائر العلوم والمراجع العربية إلى اللغات الأوروبية , و من جملة ذلك بالطبع مؤلفات لعلماء مسلمين عن الرياضيات و الكيمياء وغيرها بنظريات أسست للعلوم الحديثة كما أوحى هؤلاء العلماء بتوجهات لتخليق المجتمع
و عرفت اللغة العربية ، في العصر الحديث ، نقلةً نوعيةً وطفرةً أكيدةً، عندما أقرَّ العالمُ بجدواها و أكد على دورها الحيويِّ في خدمة الإنسانية، وذلك من خلال اعترافِ الأممِ المتحدةِ بها لغةً دوليةً بالتساوي المطلق مع خمسِ لغاتٍ دوليةٍ أخرى ، هي الإنجليزيةُ والفرنسية والروسية والإسبانية والصينية .
هذه الطفرةُ التي عرفتها لغتُنا لم تكن وليدةَ ساعتها، وإنما جاءت نتيجةَ مبادراتٍ متتاليةٍ بُذِلَت لهذه الغاية منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي، واستغَرقت من الزمن زُهاءَ الثلاثين سنة .
فقد صدرت أولى الوثائق باللغة العربية في الأمم المتحدة سنة 1955، بموجب قرارِ الجمعيةِ العامة 878/ د9 ، المؤرَّخِ في 4 ديسمبر 1954. ونص القرار على الترجمة التحريرية فقط ، كما حُدِّدَ عددُ الصفحاتِ التي يتم إعدادها في 4000 صفحة في السنة على الأكثر .
وكان على الدولةَ التي تطلب هذه الوثائقَ أن تتحمَّلُ التكاليف المترتبةَ عنها وطبيعةُ هذه الوثائقِ تنصبُّ على القرارات السياسية، والقراراتِ ذاتِ الصبغةِ القانونيةِ التي تُهم المنطقة العربية
غير أن عدم الانتظام في صدور هذه الوثائق جعلَ بعضَ الوفودِ العربيةِ تجهلُ حتى وجودَها ، و نَدَر الأخذُ بها ، لأنها ترجمةٌ تحريريةٌ فقط ، ولا أثرَ لها خلالَ انعقادِ دوراتِ الجمعية العامة للأمم المتحدة ، حيث طبيعةُ التخاطبِ هيَ شفويةٌ بالأساس .
ظل الحال على ما هو عليه حتى سنةِ 1973. ففي شتنبر من تلك السنة اتخذَ مجلسُ الجامعةِ العربيةِ في دورته الستين قرارَهُ 3071 من أجلِ السعي لوضع اللغة العربية ضمنَ اللغاتِ الرسميةِ للأمم المتحدة ووكالاتها المتخَصِّصة .
تنفيذا لذلك، قامت الوفودُ العربيةُ بعرض الموضوع على الدورة الثامنةِ والعشرين للجمعية العامة للأممِ المتحدةِ التي اتخذت قرارَها 3190 د 28 في 18 ديسمبر 1973. هذا القرارُ نصَّ على إدخال اللغةِ العربيةِ في الجمعيـة العامـة ولِجانِها السبـع، أثناءَ الْتئامِ دوراتها العاديةِ أو الاستثنائيةِ. وأهمية القرار تعود إلى أن الخدمةَ اللغويةَ بالعربية لم تعد مقتصرةً على الترجمة التحريريةِ، بل شَملت كذلك الترجمةَ الفوريةَ أو الشفوية بالعربية لأول مرة.
هذا القرارُ على أهميته، لم يُفضِ إلى وضعٍ تتساوى فيه اللغةُ العربية بباقي اللغاتِ الأممية، وعلى نحوٍ يستجيبُ لقرار الجامعة العربية:
أولا - لأنه لا يُغطِّي إلاَّ أعمالَ الجمعيةٍ العامة للأمم المتحدة أثناء دورتها العاديةِ التي تستغرقُ الرُّبعَ الأخيرَ من كل السنةِ أو الدوراتِ الاستثنائية، وهي نادرة،
ثانيا - إلزامُ الدولِ العربية بتحَمُّلِ تكاليفِ الخدمات اللغوية العربية للسنوا ت الثلاثِ التالية بعد إقرارِه. وهذا تَمْييزٌ سلبِيٌّ يُخالفُ روحَ الميثاق الذي يُلزمُ الأعضاءَ بالمساهمة في كل نفقاتِ المنظماتِ الدولية حسب جدولِ الأنصِبَة المتحركِ الذي تُقره الجمعية العامة بتوصية من اللجنة المختصة التي تعتمد آلية معقدة لتحديد النسبة المأوية التي يتعين أن تتحملها كل دولة في الميزانية العامة لمنظومة الأمم المتحدة،
ثالثا - لم يلزِمِ الأجهزةِ الأمميةَ، المتمثلةَ في مجلس الأمنِ والمجلسِ الاقتصادي والاجتماعي و ما يتفرع عنهما وكذا الوكالات المتخصصة، باعتبار اللغة العربية من أدوات التخاطب في مجامعها.
هذا الوضعُ أفرزَ مشكلةً هيكلية . فإذا كانت اللغة العربية رسميةً أثناءَ الدورةِ العادية ، فذلك يعني أنها في هذه الفترة كاملةَ الحقوق ، ومن جملةِ ذلك أن تتوفرَ للوفود كل الوثائِق التي ترِدُ من أجهزة الأمم المتحدة الخمسةِ ، وهي الأمانةُ العامة ومجلسُ الأمنِ والمجلسُ الاقتصادي والاجتماعي ومجلسُ الوصاية ومحكمةُ العدل الدولية . ووثائقُ هذه الأجهزةِ تُحَررُ تِباعاً طيلةَ السنة ، و ينبغي أن تُترجمَ إلى اللغة العربية أثناءَ الدورةِ أو قُبيلَها . ولم يستطع القسمُ العربي في هذه الفترةِ الضيقة ، ثلاثةِ أشهرٍ ، وبجهازه المحدود ( 20 مترجما و 14 مراجعا و 3 مصطلحين و 4 محررين ) أن يُعِد كل الوثائقِ المعروضةِ أمامَ الجمعيةِ العامة ، وعددُ صفحاتِها 24850 صفحة .
بعد انقضاءِ الأعوامِ الثلاثةِ التي التزَمَ العربُ بتحمُّلِ تكاليفِ خدماتِ اللغةٍ العربية، وقدرُها 8 مليون دولار، أُدرِجَت هذه التكاليفُ في ميزانية التسيير للمنظمة بدايةً من يناير 1977. ولم يَعُدِ التمويلُ عربيا ، وإنما رُصِدَ في الميزانية العامة . وهذا يعني أن الأعباء المالية المترتبة عن خدمات اللغة العربية اندمجت في أعباء الخدمات اللغوية على العموم و أصبحَ من غيرِ المعقولِ أن تَظلَّ اللغةُ العربية لغةً موسميةً ليس إلاَّ.
و على أساس هذا الوضع الموسمي للغة العربية غدا واضحا أنه من العبثِ أن تستمرَّ اللغةُ العربيةُ في إطار مُهَلهلٍ، فإما أن تأخذَ مكانتَها بنفسِ المساحة التي توجدُ عليها اللغاتُ الرسميةُ الأخرى، أو أن تَختفِيَ.
تختفي، أو على الأقل تبقى راكدةً حيثُ هي؟ هذا ما كانت تسعى إليه أكثرُ من جهةٍ، إما صراحةً أو ضمنيا أو من وراء حجاب.
الصُّرَحاءُ كانوا هُم مُمثلو الدولِ الغنية التي تُعتَبَرُ مساهمَتُها في ميزانية الأمم المتحدة مرتفعةً، و بالتالي يجدونها ذريعة بأن اللغةَ العربية عجزتْ عن مواكبةِ مسيرة المنظمة، وما يُنفقُ من أموال من أجلها لا يأتي بالنتيجة المطلوبة.
وأما " الضِّمنيون " ، فهم يتعللون بأن الوفودَ العربية تستعمل اللغاتِ الأمميَّةَ الموجودةَ على نحوٍ أجودَ ممن هذه لغتُهم الأم .
.
أما ممثلو بعض الوفود المناوئة فقد زعموا أن اللغة العربية فقيرةُ المفردات. فعرضت عليهم الدراسات العلمية المجردة ، التي تُثبت أن القدرة الاشتقاقية في العربية تفوق أربعَ مراتٍ أيَّةَ لغةٍ أخرى .
زعموا أيضا أنها ليست نفسَها في شرق العالم العربي وغربه ، فكان تفنيد مقولتهم على أساس أن ما يقصدونه هـو اللغة العامية ، فهي بحكم المسافةِ تختلفُ نطقا أو حتى تعبيرا من مدينةٍ لمدينةٍ في نفس البلد ، بل وحتى بين شخصين من نفس المدينةِ لتباينِ مستواهما الثقافي أو الاجتماعي (فليست هناك إذن عامية واحدة ولكن عاميات) . وعلى كل حال فاللغاتُ جميعُها تخضَعُ لهذه الظاهرةِ ، وتُميز بين اللغةِ الشعبيةِ المَنطوقةِ، فقيرةِ المفردات وبسيطةِ التركيب، وفصيحِ اللغةِ الغنيةِ المفردات والمحكمة بالقواعد والمعـززة بالمراجـع مما يَسمو بالتعبير ويشحذ الذهنَ لمواكبة تطور المعرفة في كل المجالات .
أما من توارى وراء موضوعية زائفة فكانت وحدةِ التفتيش المشتركةِ المعتمدة من الأمم المتحدة التي غامرت بمصداقيتها، بتقرير يفيد أنه بالنظر إلى تزايد الاحتياجات من الوثائق، فإن توفيرَ وثائقَ عاليةِ النوعيةِ، بجميع الصيغ اللغوية المطلوبة وضمن الحدود الزمنية المفروضة، أمرٌ مستحيلٌ. ولذلك، أوصت الوحدةُ بأن تُعاودَ الهيئاتُ الحكومية الدولية تقييم احتياجاتها من الخدمات اللغوية. وذَكرت أيضا أنه حيثما دعتِ الهيئاتُ الحكومية الدولية أماناتها إلى التقيُّد التامِّ بتساوي اللغاتِ كان من النادر أن تكونَ مدركةً أن هذا يستلزم مواردَ ماليةً وبشريةً إضافيةً أو إعادةَ توزيعِ الموارد . ونبَّه التقرير إلى أنه على الرغم من أن الأمانات في منظومة الأمم المتحدة تتفقُ في الرأي بشأن المعاملة المتساوية لجميع اللغات الرسمية فهي في الممارسة العملية محتارةٌ بين تلبيةِ طلب " التقيُّدِ التامِّ " بالقواعد السارية وإتباع نهجٍ براغماتي تُمليه عواملُ كثيرة ، منها حجمُ المواردِ المخصّصة من جانب هيئاتها التشريعية ذات الصلة .
هذا يعني أن الوحدة أثارت الانتباهَ إلى أن أيةَ لغةٍ جديدةٍ ، وتعني بالطبع اللغةَ العربيةَ ، ستُؤدِّي إلى أعباءٍ ماليةٍ غيرَ مبرَّرة . وجاءت بتحليل في شكل معادلةٍ كثيرةِ المجاهل نتيجتُهُ أن الزيادة العددية في اللغات 1-2-3-4-5 يؤدي إلى زيادة هندسية في التكاليف 1-2-4-8-16 .
من سوء حظ وحدة التفتيش ، وحسنِ طالع اللغةِ العربية ، أنه كان هناك من هو في وضع يتيح له النفاذَ إلى المعطيات الرقمية المفنِّدة لطرح وحدة التفتيش ، فوجَّهَ اللومَ إليها :
أولا – لأن هذا التحليل غيرُ منطقي إذ كان من الواجب طرحُه عندَ اللغةِ الثالثة ، فبالأحرى الرابعة و الخامسة ، وعدم انتظار السادسة
ثانيا – لأنها أقحمَت في تحليلها بنيةً تحتيةً موازية للغة العربية بينما الأمر يتعلق ببنية مندمجة لكل اللغات ، واستدل على رأيه أن كل كلمة تُنطق في الجمعية العامة تكلف 32 دولارا بخمس لغات و35 دولارا بست لغات ، أي بإضافة اللغة العربية .
ولذلك طالب باستصدار قـرار يلـوم وحـدة التفتيش على تعمدها مغالطة الوفود ولم يلح على طلبه حفاظا على ماء وجهها. وتم بالفعل سحب تقرير الوحدة للمراجعة، ولا زال إلى اليوم قيد المراجعة.
و عرض على اللجنة الخامسة للجمعية العامة للأمم المتحدة نص المشروع القاضي بترسيم اللغة العربية أمميا ، بعد مفاوضات مع الأمانة العامة ومع الوفود استغرقت أشهرا ، وساند في التقديم 39 وفدا . فبالإضافة إلى الدول العربية ، 5 وفود من آسيا و 6 من إفريقيا و 7 من أمريكا الجنوبية ، ومن أوروبا يوغسلافيا وفرنسا . ولماذا فرنسا وحدها من بين الدول الغربية ، لأن المندوب الذي قدم مشروع القرار كان نائب رئيس الجمعية الفرنكوفونية للأمم المتحدة ، ويدافع عن مكانة اللغة الفرنسية في أمانات المنظمات الدولية ، حيث لغتا العمل فيها هما الانجليزية والفرنسية . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التمسك بالأصالة اللغوية لا يعني رفضَ أخرى من اللغات المكتسبة .
واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا الغرض القرار 219/35 ، وفيه:
" إن الجمعية العامة ،
إذ تشير إلى قرارها 3190 (د –28) المؤرخ في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1973، الذي قرَّرت بموجبه إدخالَ اللغةِ العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل المقرّرة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية. ( إدراكا ما للغة العربية من دور هام في حفظ ونشر حضارة الإنسان وثقافته )
وإذ تشير كذلك إلى قرارها 34/226 المؤرخ في 20 / ديسمبر 1979 الذي يتعيَّنُ بموجبه أن يُصبح جهاز موظفي اللغة العربية في حجم جهاز موظفي كل من اللغات الرسمية ولغات العمـل الأخـرى ،
وإذ تضع في الاعتبار أن ما يعوق أقسام اللغةِ العربية من إصدار الوثائق بالسرعة والكمية اللازمتين ناتجٌ عن أن اللغة العربية ، على خـلاف اللغات الرسمية ولغات العمل الأخرى في الأمم المتحدة ، لا تُستعملُ إلاَّ في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية ،
وإذ تؤكِّد أنه ينبغي ، توخِّياً للفعالية الكاملةِ لأعمال الأمم المتحدة ، أن تتمتع اللغة العربية بنفس الوضع الممنوح للغات الرسمية ولغات العمل الأخرى ،
1 - تقرِّر إدخالَ اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغاتِ العمل المقرَّرة في الهيئات الفرعية للجمعية العامة في أجلٍ لا يتعدى الأول من كانون الثاني/ يناير 1982 .
2 - ترجو مجلس الأمن إدخال اللغة العربية كلغةٍ رسمية ولغةَ عمل ، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي إدخـال اللغـة العربيـة كلغة رسمية ، فـي أجـل لا يتعـدى الأول من كانون الثاني/ يناير 1983 . "
وتمتِ المصادقةُ على مشروع القرار المغربي بالإجماع .
و هنا استحضر الاعتزاز الذي خالج الوفود العربية يومَ أن أصبحت اللغة العربية منطوقةً ومدونةً في اللقاءات الدولية . كما أتذكر أيضا أنه يوم الموافقة على القرار الأممي 219 رحَّبَ بلسانٍ عربيٍّ فصيحٍ كُلٌّ من مندوب ألمانيا واليابان بحلول اللغة العربية أهلا جديدا في الأمم المتحدة و فروعها على امتداد العالم ، و أقرَّا بأنها لغةٌ تستجيب لحاجيات العصر .
أصبحت اللغةُ العربية على إثر القرار لغةً دولية مدعوَّةٌ لأن تحتلَّ مكانتها وتؤدي دورها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أكثر من مائتي هيئةٍ دولية . و من الطبيعي أن تطبيقَ القرارِ ستَنشأ عنه مصاعبُ كثيرةٌ ، أهمها كان على القسم العربي في الأمم المتحدة تدليلها . ومن أهم تلك المصاعب :
أ. ندرةُ التراجمةٍ الشفويين الذين يستطيعون الترجمةَ بما يلزمُ من السرعة والدقة ،
ب. انعدامُ وجودِ تراجمةٍ شفويين غيرَ عربٍ قادرين على الترجمة من العربية إلى لغتهم الأم . ذلك أن القاعدة تقضي، بأن تكون الترجمة الفورية من لغةٍ تسمى ، في عرف المترجمين الدوليين ، سالبةً ، وهي التي يَستمِعُ إليها المترجم ، إلى لغةٍ موجبةٍ ، وهي التي يَنطق بها . ويجب أن تكون اللغة الموجبة عند المترجمِ لغتَهُ الأم . أما الترجمان العربي أو الصيني فعليه أن يؤدي في نفس الوقت السالب والموجب من اللغة .
أما المشكلةُ الثالثة فتتعلق بالمصطلحات. فقسم الترجمة بشعبتيه التحريرية والشفوية وكذالك قسم التحرير العربي يواجهان مشكلةَ انتقاءِ المصطلح المقبولِ من كُلِّ الوفود. فهما إما أمام مصطلحات عديدةٍ عددَ الدولِ العربية وتعني نفس الشيء، وإما أمام انعدام المصطلح ويتعينُ استنباطُه.
قضية المصطلح العربي ليست وليدة قبول اللغة العربية في الأمم المتحدة فاللسانيون العرب أقروا منذ عقود عديدة بهذا العائق في التواصل ، و في مطلع الستينات كَونت اللجنةُ الثقافيةُ للجامعة العربية لُجينةً من أجل توحيد المصطلحات في العالم العربي . وبعد العديد من اجتماعاتها، لم تأت بشيء يُذكر لأن كلَّ بلد عضوٍ يتمسك بالمصطلح الساري عنده خاصة إن كان هذا البلد يتوفر على مجمع لغوي. .
كانت اجتهادات ومجهودات هنا وهناك في البلاد العربية حيث مجامعها اللغوية تتبارى من أجل توحيد التعريب دون تنسيق فيما بينها فمجمع دمشق الذي يرجع تاريخه إلى 1919 أو مجمع القاهرة الذي أنشئ 1934 ومجامع لغوية أخرى لم تستطع فرض منتوجها على البلاد الناطقة بالعربية ككل حتى بعد أن تأسس اتحاد لمجامع اللغة العربية في سنة 1971 ولذا كان يتعين البحثُ عن طريق آخر.
الطريق الآخر تمثل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. وفي هذا السياق ساهمت المنظمةُ إسهامًا جادًا في حركة تعريبِ المصطلح العلمي والتقني بفضل جهودِ مكتبِ تنسيقِ التعريبِ بالرباط ، الذي يُصدر سلسلةً من المعاجم ، ثلاثيةَ اللغات ، تضم المصطلحاتِ العربية الموحدة في كثير من العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية وفي عدد من مجالات التكنولوجيا . وقد بلغ عدد المعاجم الصادرةِ ما يزيدُ عن ثلاثين معجمًا ، يتم تطويرها بانتظام لتواكب تطور المصطلحات العلمية والتقنية .
نستحضر في المجال أحمد لخضر غزال رحمه الله الذي كان مؤمنا بقدرة اللغة العربية على التعبير عن متطلبات العصر. فوضع معاجم التعريب لمجالات حيوية عديدة ونمط الحرف العربي لكي يساير التقنيات الحديثة في مجال المعلوميات وابتكر أول طابعة للحروف الرقمية العربية و أنشا أول بنك للمعطيات و المصطلحات،
ومبادرات أخرى عديدة وُظِّفت من أجل تدعيم أركان اللغة العربية.
هي مجهودات أتت ثمارَها وأفادت القسم العربي في الأمم المتحدة كثيرا في اختيار المصطلح و لكن الحضارة العلمية تقذف كل يوم بمئات المصطلحات إلى ساحة التداول العلمي أو التكنولوجي ويتعين اقتباسها عند الحاجة وهذه قضية مطروحة على صعيد كل اللغات في الأمم المتحدة. و على كل حال فقد تطور عمل القسمِ العربي وأصبح عطاؤُه يتحسن سنة بعد سنة، خاصة وأنه يضم عناصرَ على مستوى جيد في معرفة اللغات من عدد من الدول العربية، و أصبح أداءُ اللغةِ العربية يُضاهي اللغات الأخرى أو يكاد .
اللغة العربية كمولودٍ جديدٍ في منظمة الأمم المتحدة كان يحتاجُ إلى رعاية في حضن الناطقين بها.
ولكن....
وخلافا لما كان منتظرا، قلصت الوفود العربية سنة بعد سنة، من استعمال لغتنا.
إن بيانات قسم الإحصاء في الأمم المتحدة تنبئ أن استعمال اللغة العربية في تراجعٍ مطردٍ ، وهناك من ينادي في المنظمة الدولية بالتخلي عن هذه اللغة ما دام أهلها معرضين عنها . أليس من الأفضل ، يقول ممثلو الدول الذين قبلوا بلغتنا على مضض ، تحويلُ المواردِ المخصصة لها لمناحي أفيدَ كالتخفيف من آثار المجاعة في إفريقيا وهايتي .
إن المنظمةَ الأمميّة بدأت منذ مدةٍ تتراجع عن منظورها للعربية لأنَّها رأت أنّ كثيراً من وفود الدول العربية، عندما يتحدثون في المحافل الدولية، يتحدثون باللغات الأجنبية، مع أن الإعراض عن اللغة القومية يعتبر نشازا في المؤتمرات الدولية. فكل وفد يتمسك بلغته ، إن كانت دوليةً ، ولا تجدُ من بين دول أمريكا اللاتينية من يتكلم بغير الإسبانية ، ومن الفرنكوفونيين من يتحدث بغير الفرنسية ، وقس على ذلك الانجليزية والروسية والصينية .
ولا أدل على هذا المشهد، من الصِّراع بين اللغات في المنظمات الدولية والإقليمية. إنهم يقاومون استحـواذا لغويا وحيدا تُمليه هيمنة العولمة ، ويعتبرون أن التخلي عن لغتهم مدخلٌ لاستلاب الهوية ، ولإضعاف الشخصية ، ولإكراه الأفراد والجماعات على الذوبان في ثقافة الغير .
لماذا لا تخالجنا نفس المشاعر؟ لماذا يوجد من بيننا من ينادي بالتمرد على اللغة العربية متعللا بأن أسلوبها قديم ومتهالك وهو في الحقيقة لا يتمرد إلا على عجزه في استيعابها.
أي تفسير لمثل هذا الانبهار بلغة الغير إلا أنه يمثل حالة انهزام نفسي أمام أمم تسعى لتستحوذ على غيرها في كل شيء :الارض و الهوية والقوت لأنها صاحبة القوة والعلم و المخترعات. و أي تألق يسعى إليه من يتواري تحت جناح الآخرين ؟ أهكذا قدروا مآل اللغة العربية أمام اللغات الأخرى ونعتوها بالجمود والانحسار، وجهدوا أنفسهم في تقديم أدلة على أوهامهم ناسين أن العربية لم تأنس إلى هذا الركن الضيق ، وإنما دفعوا بها دفعا إليه و هم أهلوها وضيقوا الخناق عليها وسدوا منافذ الحركة أمامها.
و من الشطط النظر إلى التعبير باللغة القومية على أنها مجرد مسالةٌ ذاتُ بعدٍ لساني فقط وأن الأهم هو تبليغ الفكرة بأي لسان كان.لا ينبغي النظر إلى قضية مصيرية بهذه السذاجة. لقد برزتِ اللغة، في كل بلاد العالم ، كقضية تجاوزت حجمها اللساني لتبرز كعاملٍ سياسي وأداةً دبلوماسيةً لبلدٍ أو مجموعةٍ من البلاد التي تتخذُ منها منطلقا لإبراز الذات وتأكيد الحضور في الساحة الدولية .
وأحرى بنا أن نَزنَ بميزان الواقعيةِ الخسارةَ والربحَ في إعراضنا عن إثبات ذاتنا في المحافل الدولية .
هناك من يرجع التخاذل إلى ضعف معرفة المندوبين بلغتهم، وأنهم باستعمال لغةٍ أجنبية يصونـون بفعاليةٍ أكثرَ المصالحَ الوطنية. ليس هذا ذنب اللغة، إنما هو قصور عند المعني بالأمر، ولم أسمع أبدا، على امتداد حياتي الدبلوماسية، أن مندوبا في الأمم المتحدة، أو في غيرها من المنظمات، افتخر بأن باعه، هُوَ أوفر في اللغة الأجنبية منه في لغته القومية. مسألة كرامة واعتزاز.
ومما يحز في النفس ويُلقي في الصدر حسرةً ، أنه عندما تألقت اللغة العربية ، وأخذت مكانها بين اللغات الدولية ، و توسمت كثيرٌ من البلاد في هذه اللغة ازدهارا و توسعا ، واستعدت للتعامل مع أهلها بفتح شعبٍ في جامعاتها لتلقينها ولتخريج أفواج من أطرها قمينةً بتنمية العلاقات معنا في كل المجالات ، نسمع اليوم خصومنا في الثقافة يعيبون علينا أننا حرصنا على إقحام اللغة العربية في الأمم المتحدة إرضاءً لنعرةٍ قومية ، وتعصبٍ يفتقدُ المسؤولية .
إن العرب يتحملون في هذا المجال مسؤولية أخلاقية أمام التاريخ ،و حسبي من استعراض هذه المراحل أن اللغة العربية تتفاعل مع الإرادة السياسية العربية بالمقام الأول، تقدما إن هي وجدت القبول والاقتناع بها من لدن أصحاب القرار السياسي، و تقهقرا وابتعادا عن دائرة الحضارة إذا قوبلت بالتقاعس، أو بشيء أكثر من التقاعس .
أليس من واجب دبلوماسيتنا اليوم أن تبذل جهدها لترسيخ دور اللغة العربية في المحافل الدولية. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال عزيمة ناجعة ، نابعة عن الاقتناع بالثوابت الحضارية .
أليست للمسؤولين السياسيين القائمين على بلادنا في يومنا هذا مرجعيةٌ مرتبطةٌ بالثوابت الحضارية ؟ أليست اللغة من الثوابت؟ أليس من واجبنا جميعا ، كل حسب قدرته وإمكاناته وسلطته ، رد الاعتبار إلى اللغة العربية فوق أراضينا و خارجها ؟ .
ولمن يجد في هذه الدعوة غلوا وإسرافا ، أحيله على تقرير تَدرسه الآن الجمعية الوطنية الفرنسية يتطرق إلى انكماش اللغة الفرنسية أمام الإنجليزية في تيار العولمة الجارف ، شعاره هو :
" اللغة كأرض الوطن ، تجب حمايتها كحماية الحدود "
|
|
|