|
العربية تشكو عقوق أبنائها
حين تغضب عليك أمّك، لن يبارك الله خطاك مهما اجتهدت ومهما كافحت، فبذور الغضب لا تجني ثمارا شهيّة حتّى لو سقيناها ماء زمزم، لأنّ "الجنّة تحت أقدام الأمهات"، فما بالك إن كان ذلك الغضب يتلعثم بين شفتي أمّنا جمعاء، اللغة العربية، لغتنا الأمّ!!
لسنا في صدد الرثاء والبكاء، أو الوقوف على أطلال التراث لنندب عجزنا، بأنّه لم يعدْ في الإمكان أن نعيد أمجاد ما كان، فالمشكلة جليّة وأسبابها أكثر جلاء، لغتنا تتضعضع وهويّتنا تضيع، والفجوة بين ألسنتنا ونفوسنا تزداد عقما وعمقا، فكيف سنستقيم ولسان حالنا يعاني من الإعوجاج!
إن اللغة العربية في حاضرها اليوم، هي في أمسّ حاجاتها للتبصّر والتأمل من قبل أبنائها، منذ أن أحدثنا تلك القطيعة بين ماضيها، حاضرها ومستقبلها، فاللغة امتداد وليست فواصل ومحطات، واتهام العربيّة بالتخلّف، ينمّ عن جهلنا، بطبيعة الّلغة اللينة والمرنة، التي تجهل طباع الصخور!
يشهد عالمنا العربي حالة من الانحطاط والانحدار اللغوي، لا يمكن نكرانه، وغضّ البصر عن حساسية موقفنا بأننا أمّة لا تبالي بلغتها الأمّ، ولا تقيم لها وزناً باعتبارها هوية وتأشيرة عبورٍ حضارية وثقافية، وبما أنّ ملامح وجهنا العربي مهدّدة بالتشويه، سعت "البيان" لتسليط الضوء على معاناة حرفها، فأجرت مقابلة مع كبير أعلام طرابلس اللغويّة، الأستاذ الضليع في دهاليز عربيته، الدكتور أحمد الحمصي، وطرحنا عليه تساؤلاتنا وهواجسنا الآتية، عسانا نلتمس حلاً ينشل لساننا من هذه القوقعة العصيبة:
وفيما يلي نص الحوار:
إذا أردنا أن نوجز وضع اللغة العربية في عصرنا، عصر الحداثة والانفجار المعلوماتي، بعبارة واحدة، فماذا تقول؟
اللغة العربية اليوم، في وضع يبعث على القلق، وذلك أن كثيراً من أبنائها لا يهتمون بأمرها، مع كونها لغتهم الأمّ، إنما ينصب اهتمامهم على الحضارة الغربية وما أنتجته من مخترعات ومسميات وألفاظ.
هل بإمكاننا اعتبار، أن اللغة العربية تعاني من النفور حتّى من قبل أبنائها، وما السبب برأيك؟
نعم للأسف، إنّ كثيراً من الشبان العرب مبهورون بالحضارة الغربية، ومأخوذون بمخترعاتها من كمبيوتر وموبايل وغير ذلك، فهم يحاولون اللحاق بهذه الحضارة، ناسين أو متناسين أن الغرب هو الذي حارب هذه اللغة العربية، لأنها كانت مفتاح تقدم العرب ولغة حضارتهم السابقة، فهو حين أخفق باستعمال الأرض العربية لجأ إلى استعمال العقل العربي، فهيأ حفنة من الكتّاب الغربيين في مهاجمة لغتنا، مدعين أنها سبب تخلف العرب وجهلهم، وتبعهم في ذلك بعض الأبواق العربية الموجودة من كتّاب ومنظرين.
كيف يمكننا أن نربط بين انحدار وضعنا اللغوي، وانحدار وضعنا على كلّ الأصعدة الأمنية والسياسية والإجتماعية والثقافية؟
اللغة مفتاح العلم، وبها يعبّر الإنسان عن طاقاته وأعماله وأحلامه، فإذا أهمل لغته وفقد الاهتمام بها وهي وسيلة للتعبير والفهم والإفهام، ثم تعلق بلغات الآخرين، سهل عليه أن يهمل كلّ شيء آخر على كافة الأصعدة.
هل تتحمل مناهجنا التعليمية مسؤولية سوء العلاقة بين الطلاب ولغتهم الأمّ؟
وضعتِ بهذا السؤال الإصبع على الجرح، وذلك أن هناك أسباباً كثيرة في ضعف أبنائنا في العربية، منها قيام وزارة التربية والتعليم بتأليف لجان على طريقة ستّة وستّة مفرق، من أشخاص لا يبالون بالعربية، وأكثرهم لا يحسنونها، لذلك كلّما غيروا منهاجاً تعليمياً جاءوا بأسوأ منه.
وأذكر هنا، أنّ وزير التربية والتعليم أصدر سنة 1992 تعميماً على الثانويات الرسمية، طلب من مديريها تفريغ أستاذ الرياضيات يوم الثلثاء، وتفريغ أستاذ الفزياء يوم الأربعاء، وخصص لكل من منسقي المواد الأخرى يوماً للتفريغ فيه، ولم يأتِ على ذكر منسق العربية.
وحتّى لا أتهم وزارة التربية وحدها بالتقصير، أذكر أن هناك أساتذة للغة العربية لا يفرقون بين الألف والعصا، وأنّ معظم الكتب المؤلفة في العربية فيها من الأخطاء القبيحة الشيء الكثير، أذكر بالتحديد كتاب الدولة في الصفوف المتوسطة، فعند قراءتي الجزء الثالث منه، وجدت فيه من الأخطاء ما ملأت صفحات عدّة، فرفعت بذلك تقريراً إلى مدير مركز البحوث، فوضع في أدراج المركز.
ما هي الحلول المرجوّة لإعادة مجد اللغة العربية ومكانتها المرموقة؟
سبق لي أن قدمت محاضرة في هذا الشأن، أذكر فيها أنّه لا يوجد علاج سحري يُقوّم ذلك الأعوجاج، وأنّ الشفاء من ذلك الداء يحتاج في الواقع إلى وقت، مع محاولة الأخذ بأمور كثيرة منها:
1-أن تُستبدل الكتب المقررة، بكتب يؤلفها مختصون يعتمدون فيها على النصوص التراثية والحديثة التي عُرف أصحابها بالفصاحة، على أن يبدأ ذلك من المرحلة الابتدائية.
2-إنشاء معهد خاص لتدريس العربية وعلومها وحسب، لتخريج كوكبة من المعربين الأكفياء.
3-إقامة دورات تدريبية متلاحقة للمعربين وإلزامهم التعبير بالفصيحة في مراحل التعليم كافة.
4-تعميم تدريس العربية في كل المراحل الدراسية بلا استثناء، مع توجيه الاهتمام إلى الجانب التطبيقي، بحيث يصار إلى تخصيص ساعتين في الأسبوع على الأقل للقراءة الصحيحة والإلقاء.
5-عدم رفع الطالب إلى صف أعلى من صفه، ما لم ينلْ في العربية اثنتي عشرة علامة من عشرين على الأقل.
6-إعادة إدراج الاختبار الشفهي، وترجيح علامته على علامة الاختبار الخطي.
7-تغيير مناهج تعليم العربية بحيث يتولى وضعها أساتذة أكفياء لا أكفّاء.
8-التركيز على أهمية التنسيق وتفريغ المنسق
9-الإكثار من النصوص المختارة لمادة الإستظهار.
10-حثّ الطلاب على الإكثار من المطالعة المفيدة، وتكليفهم تلخيص ما يطالعونه.
11-القيام بأنشطة ثقافية مختلفة، كإنشاء جمعية خطابية في كلّ مؤسسة تعليمية، وإصدار نشرة شهرية، وعقد محاضرات وندوات في اللغة والأدب.
12-الاستعانة بأساتذة للخط العربي، لتعليم المعربين أصول الخط،، ذلك أنّ "الخط الجميل يزيد الحقّ وضوحاً كما قال الإمام علي رضي الله عنه.
وخلاصة القول، إن اللغة، أية لغة كانت، ليست عائقاً في درب أبنائها، نحن من يختلق العثرات والمطبات، ونأبى التطوّر في منأى عن أنفسنا، وفي منأى عن لغتنا، فمحور الصراعات في القرن الواحد والعشرين، هو اللّغة، أوليس من الأجدى بنا، أن نتعلم لغة الآخر لأجل إحياء عربيّتنا في حراك التّرجمة وانصهار الثقافات، ألا تحتاج المنافسة اللغوية إلى لسان صاغٍ سليم، لا يفضّل والدته المستعارة على والدته الأصلية تجنباً لعقوقها!
البيان
|
|
|
|