نينغشيا: حبّ من الزيارة الأولى

د. صلاح جرّار

 لم تكن زيارتي للصين في المدّة من 20-26 أيّار من العام الحالي هي المرّة الأولى، ولكن كان لهذه المرّة نكهة خاصّة، ففي كلّ مرّة أزور فيها هذا البلد أكتشف فيه جديداً، وقد أتيح لي في هذه المرّة زيارة مقاطعة نينغشيا في غرب الصين ضمن وفد من التعليم العالي يضمّ وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور لبيب الخضرا، رئيساً للوفد، والدكتور بشير الزعبي رئيس هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي، والدكتور نظير أبو عبيد رئيس الجامعة الألمانية الأردنيّة، وذلك لعقد اتفاقيات بين الصين والأردنّ في مجال التعليم العالي.
لم أكن أتوقع أن تتعلق قلوبنا بمكان جغرافي يبعد كلّ هذه المسافات عن الأردنّ كما تعلقت بمقاطعة نينغشيا التي يبلغ عدد سكانها نحو ستة ملايين منهم مليونان ونصف المليون من المسلمين، والمقاطعة تتمتع باستقلال ذاتي، وحاكمتها مسلمة، ويعيش أهل هذه المقاطعة بوئام كبير ينعكس في عنايتهم البالغة ببلدهم وإخلاصهم المتناهي لها والسعي الدائم إلى إبرازها بأبهى حلّةٍ ممكنة.
وتستعد المقاطعة في هذه الأيّام لاستقبال الوفود المشاركة في دورةٍ جديدة من دورات المنتدى العربي الصيني ولقاء وزراء التعليم العالي ورؤساء الجامعات العرب والصينيين في الحادي عشر من أيلول المقبل. ولذلك وجدنا كلّ من في المدينة منهمكاً في التحضير لهذا الحدث التاريخي، من خلال إنشاء مبانٍ ومرافق وتجهيزات فنية مختلفة. غير أنّ من الواضح أن جمال المدينة وجاذبيتها لا يعود فقط لكونها على أبواب حدث اقتصادي وتعليمي عالمي كبير، بل لأنّ ثقافة أهل هذه المقاطعة تحتفي بالنظافة والجمال والأناقة والإتقان احتفاءً كبيراً.
لقد بدت لنا عاصمة هذه المقاطعة عروساً في ليلة زفافها ليس فيها شيءٌ ارتجاليّ أو عشوائي، فكلّ نبتةٍ في شوارعها وحدائقها مغروسة في مكانها الذي يليق بها، فشجرة ذات أوراق صفراء بجانب شجرة ذات أوراق حمراء وبجانبها شجرة ذات أوراق خضراء بحيث تشكل جميعها لوحة في غاية البهاء والروعة، وأمّا المسافات بينها فكأنّها مرسومة بمسطرة دقيقة جداً، والأروع من ذلك أنّك وأنت تسير في شوارعها ليلاً تهبّ عليك روائح الزيزفون من كلّ الجهات فتملأ الأجواء عبقاً لذيذاً. وعندما اصطحبنا مسؤولو المقاطعة نهاراً إلى المتنزه الشعبي في وسط المدينة سحرنا تنسيق الورود وروائحها العاطرة، وذكرتني روائح الورد الجوريّ القويّة والنفّاثة بأيّام كان للورد في بلادنا روائح جميلة، وكنّا كأنّما نسير في مكان تمطر فيه السماء عطوراً. وبدت لنا المدينة كأنها مستحمة بماء الورد مضمّخة بعطر الزيزفون والورد الجوري، حتى ملابس نسائها كانت تحاكي جمال طبيعتها الأخاذ.
كان تعلّق الناس بمدينتهم واضحاً في استغراق كلّ واحدٍ منهم في عمله بحماسة وسعادة، وكانت النظافة التامّة من أبرز ملامح هذه المدينة. وعندما قام أحد موظفي المقاطعة بعرض فيلم وثائقي عن المقاطعة لاحظنا أن التصوير كان تصوير عاشق للمدينة والإخراج إخراج هائم بحبّ المدينة، وكان الإتقان عنواناً لكلّ ما شاهدناه. إنّها مدينة صفاء وبهاء ومحبّة، ولم تقتصر هذه المحبة على حبّ الوطن الذي وجدناه شعاراً على إحدى لوحات المعرض المنتظر، بل كان حبّ الناس لضيوفهم ولا سيّما العرب حبّاً ينبئ عن علاقة وجدانية بينهم وبين العرب، ووجدنا اللغة العربيّة في كلّ مكان في المدينة تقف جنباً إلى جنب مع الصينية والإنجليزية، وعبّر أهل نينغشيا عن رغبتهم الشديدة في التعاون مع الأردنّ في مجال تعليم العربيّة، وودّعونا وهم يطلبون منّا ألا ننقطع عنهم أو نطيل الغياب، وأن نرسل إليهم من يساعدهم على تعلّم العربيّة.
لقد أحببنا كلّ شيء في هذه المدينة –باستثناء قلّة الملح في الطعام وإلاّ كيف تكون الممالحة! أحببنا نظافتهم وأدبهم وأناقتهم وطموحهم وجمال أرضهم وطبيعتهم وأخلاقهم وتواضعهم والنهر الأصفر الجاري في بلدهم يرويها ويغذي البحيرات المائية الصناعية فيها- وكنّا جميعاً نزور هذه المقاطعة للمرّة الأولى فوقع حبّها في قلوبنا من الزيارة الأولى.

الرأي