
الخطاب الشفهي
د. زين العابدين سليمان
إن اختيار المتكلم لخطاب معين يريد إيصاله وإفهامه إلى سامعيه، يجب أن يكون بعناية ودقة فائقة، فالخطاب عامة مضمون شفهي يؤدي وظيفة أو عدة وظائف، ويتدخل المتلفظ للخطاب بإعادته معتمدا على تلوين صوتي آخر من خلال تراكيب ومفردات مختلفة للموضوع الواحد، وتساهم في تبسيط دلالات ومعاني التراكيب، فنوع الخطاب يحتم على قائله أن يؤديه بألفاظ غريبة صعبة الفهم تحتاج عدة تأويلات لفهمها، كما يضطره إلى تسهيل ذلك وتيسيره حتى يصل إلى الغرض المقصود، يقول الجاحظ "وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى، وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع"( ).
أكد الجاحظ على ضرورة مراعاة المعاني بوضوحها ودقتها، لأنه لا يمكن للمتكلم أن يُحدث شخصا أميا بمصطلحات لسانية أوعلمية محضة، كما لا يمكن أن يستعمل لغة بسيطة وسهلة مع متخصصين وباحثين مرموقين في موضوع معين، فكل لفظ بالضرورة يختار مكانه وموضعه في الدلالة، بحيث إن غُير لا يسد تلك الغاية المقصودة منه، وإذا نظرنا في القرآن الكريم وألفاظه، يتبين لنا بكل بداهة، أنها اختيرت في مواقعها المناسبة من عدة وجوه وبمختلف الدلالات، ففي قوله تعالى: ﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾( )، نجد أن الألفاظ المكونة لهذه الآية القرآنية كلها متناسقة ومتناسبة مع الدلالة التي جاءت من أجلها، فكلمة ( أوهن ) تبرز لنا معنى الضعف، ويمكن أن يتحقق المعنى بكلمة أخرى عوضا عنها وهي ( أوهى )، إلا أن القرآن الكريم استعمل ( أوهن ) دون غيرها، لكون الحروف التي تتكون منها هذه الكلمة تخرج من الحلق وأقصى الحلق والغنة، ولا تتأتى بضم الألف إليها صوتيا، ولا تحمل وقعا خاصا يبين الشعور بالضعف المتناهي، ولكن مجرد الضعف وحده، وقد أحدثت النون عوض الألف إيقاعا وصدى لا تحدثه الألف. يقول الزمخشري مؤكدا ذلك "وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لو كانو يعلمون"( ).
يتضح مما سبق أن القرآن الكريم قد امتاز بتخيير الألفاظ وانتقائها، وبذلك فهذا يرصد لنا ما لهذه الألفاظ دون غيرها من قوة تعبيرية، الشيء الذي يجعل منها تنعم بدلالات تتناسب مع وظائفها، وبهذا فإن اختيار الخطاب الشفهي المناسب له دور كبير في تشكيل الدلالة وصنع المعنى، وخلق الفهم والإفهام، فالمتكلم يعتمد على ذلك في الكشف عما يريد البوح به، وإيصال معناه إلى المتلقي.
1- الجاحظ، البيان والتبيين، ج 1 ص: 75.
2- سورة العنكبوت، الآية 41.
|
|
|