لغة الضاد بين أنياب الفسبكات وصحافة الوجبات السريعة

شربل أبي منصور

بعدما كانت موئلاً لنفيس الكلام ودُرره وتُخطّ بماء الذهب، أمسَت مرتعاً لسفيه الكلام وأبخسه ترويها المياه الآسنة، وبعدما اعتدناها حبراً في الدواوين والمجلّدات والكتب، تحوّلت أثيراً في عالم افتراضي. ولكنْ، شتّانَ بين حال الأمس واليوم. هي في جوهرها وبنيتها طيّعة كعجينة، حيّة، قادرة على التكيّف مع التطور بكل وجوهه غير أنها لا ترضى الميوعة والخِفّة والاستسهال. لذا، فإن كلّ مَن حاول أن يرود ملعبها ويخوض غمارها، ولم يكن نظيراً لها ولا ندّاً، بانَت عيوبُه وكثُرت سقطاته فتوسّل مصادر أجنبية مُتذرِّعاً بتحجّرها وعدم مجاراتها الحاضر وقدرتها على التعبير عنه. لكن للحقّ، أقول، هي بَراء من هذا كله. فحرّاس هيكلها هم مَن فرّطوا بالأمانة وخانوا الثقة واستساغوا الأحجار الزائفة بدل الكريمة منها. وأيضاً، للأمانة أقولُ، ليس الجميع، فلا يزال هناك ثوارٌ وأنقياء يخوضون معركة الحق. ولا مجالَ فيها للمُهادنة والتخاذل فهي معركة هُويّة ووجود.

أستميحُكم عذراً، أيّها القرّاء، إن بدا كلامي مُلتبساً أو رماديَّ المعالم. لذا، هاكم بعض التوصيفات والملامح التي قد تقشعُ الغيومَ وتُبدّدها لتبدو الصورة جليّةً: هي ظَبيةٌ من قُريش أدْماء. كِنيتُها الضادّ. تعبقُ في ثناياها رائحة الهال. في عينيها حور. جسدها مخضّب بالحِنّاء. تلازم خِدرها لئلا تصطادَها العيون، يغارُ من بياضها الثلج، وتحترق الشمس لملامسة بشرتها. حسناً، سأبوحُ بالسرّ: إنها المرأة والحبيبة، إنها اللغة العربية. قد يقول قائلٌ ما هذا الهُراء الذي يتفوّهُ به، وبعضُكم قد يراه تروبادورياً أو يوتوبياً، وآخرون قد يجدون فيه غلوّاً ومغالاة، ولكن، أسألكم: أليس مُسفّاً ومُعيباً أن نشهد في الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع ووسائل التواصل الاجتماعي ما يحطّ قَدْر اللغة العربية وينتهك قواعدها ويغتصب بنيتها ومفاتنها؟ أيقبلُ أحدٌ أن يخونَ امرأتُه لمجرّد تمنّعِها، وأن يجلبَ لها أجنبيات دخيلات إلى عقر داره؟ أليس هذا انتقاصٌ من قيمته أولاً قبل أن يكون انتقاصاً من امرأته؟ إذاً، لمَ نقبلُ هذا على لغتنا؟ لماذا دائماً نفضّلُ لغاتٍ أخرى على لغتنا وكأنّ "الكنيسة القريبة لا تشفي"؟، أيُفترضُ أن أُجيدَ لغات أجنبية لأكون مثقفاً وذا قيمة وإن حافظتُ على لغتي العربية وأتقنتُها أكونُ رجعياً متخلِّفاً؟

يبدو أننا كنّا غافلين عن لغتنا لنلحظَ مدى الهُزال والهشاشة اللذين أصاباها حتى لنكاد نقولُ إنّها على وشك الاندثار! وربّما ما فتّحَ أعيُننا على بؤس حالها والدَّرك الذي وصلته هو ما نشهده في الشبكة العنكبوتية من لَغْوٍ ولَحَن وهنات في اللسان العربي، وخصوصاً الميديائية حيث لا اعتبار لأبسط مقوّمات اللغة لئلّا نقول ازدراء بيّناً. فالصحافة الإلكترونية أصبحت كالوجبات السريعة (Fast food) يهمّها إشباع القارئ بغضّ النظر عن نوعية المادة وجودة محتوياتها، ومغذِّياتها وصحتها. وهذا ما يُفسد ذائقة القارئ، ناهيك بتهشيم قواعد اللغة فيُمسي الفاعل مفعولاً به والمفعول به مضافاً إليه وهلمّ جرّاً.

أما لو جُلْتَ بناظرَيك على "تويتر" وفايسبوك" فتشعرُ كأنّك في "برج بابل" جديد، فتحدّق بالتغريدات و"الفسبكات" فلا يمكنك تمييز اللغة المكتوبة، أهي حقّاً العربية ما تَقرأُ، أم السنسكريتية أو المسمارية؟ وحالياً تشيع لغة بين الشباب تعرف بـ "Chatting" توالف بين الأرقام والحرف الأجنبي (2ana ، 3ende، 7abibi...)، وهذا يزيد الشرخ بينهم وبين العربية ويُضاعف النأي عنها. في المقابل، نحن لا نتوخّاهما وسيلتَيْ فصاحة، ولكن أيضاً لا أن تصيرا وسيلتَي سفاهة. جرائم "داعشية" تُرتكب لا قانون يُحاسب عليها: تزوير مقالات، انتحال صفات (شاعر، روائي، صحافي...)، تحوير أشعار وأقوال، تشويه نظريات وخلخلة أُسس وانتهاك قواعد... والسؤال: أين الإنسان من احترامه لغتَه التي تنبع من احترامه ذاتَه، فكرَه، إرثَه الثقافي، تاريخَه، وجودَه؟

لا شكّ في أنّ المآلَ التي آلت إليه اللغة العربية هو نتيجة تراكمات مزمنة، لا يتحمل مسؤوليته الجيل الحالي وحده، بل إنّ جميعنا في موقع المساءلة والاتهام. ونحن هنا لسنا في وارد الوقوف على الأطلال والبكاء على مُلكٍ قد يضيعُ منّا، بل نسأل: ألسنا نحن مَن تركنا أرضنا بوراً، من دون حراثة، وشلَحنا معاولنا حتى صدأت واهترأت؟ ألسنا نحن مَن استبدلنا دوالينا بأشجار من اللبلاب وانتظرنا العنب والزبيب والنبيذ؟! ألسنا أنفسنا مَن دفنّا الوزنات، واختلفنا في ما بيننا على قسمة تَرِكة هذه الأرض، حتى فقدَتْ قيمتها وأصبحت سائبة ومشاعاً، فتركنا أشجارها من غير تشذيب ولا تشحيل ولا تطعيم، واستنظرنا ثماراً؟

أيها القرّاء، الحبّ دائماً هو السبيل والخلاص والملاذ. وهو وحده يُصلح ما أفسده الدهر واقترفته أيدينا. لذا، ها أنا أعلنُها مجدداً، جَهاراً وعلى الملأ، حبيبتي. ولكن لا يظنّنَ أحدٌ أنّ وصالَها اشتمام زْهر، بل هو أقرب إلى ترويض النفس، إلى الإدمان، إلى الانتحار. أنا في حضور غادتي الحسناء العاشقُ الولِه. أتوسّلُها طوقَ نجاة كغريق لم يبقَ له غيره. أداهنُها، أتملّقها، أتحايل عليها علّها تغدق عليّ بعض فُتاتها. أنتحبُ على قدميها كخاطئ يكفّر عن ذنوبه. لكنّ، حبييتي وحشيّة يصعُب ترويضها، متونُها واسعة وشعابها وعرة وحفافيها عالية، لأصل اليها عليّ أن أعبر البحار والصحاري، وأستعيد ألف ليلة وليلة، وأجابه حراسها وشعراءها وأخلّاءها ومريديها ومناصريها، وأبيع روحي من شياطينها، وأميط الف لثام ولثام عن ماضيها، وأغرف من حكمة متنبّيها، وأتقن الفروسية كعنترتها، وأذوبُ هياماً ووَجْداً كجميلها، وأتبحّرُ بلاغةً في نهج عليِّها.

اللغة هي ابنة بيئتها ولسان حال أبنائها، وهذان التشظّي واللاتوازن اللذان يصيباها هما نتيجة التأزم والتقهقر اللذين يعانيهما العالم العربي. وما السبيل إلّا باحتضان لغتنا والإيمان بها، والتفاعل مع الوارد إليها لا فقط التلقي سلبياً وببغائياً، إذ بعدذاك لا ينفع الندمُ "ولاتَ ساعةَ مَندمٍ"...

النهار