الشاعر فؤاد حداد واللغة العامية في الأدب

لا أعرف لماذا يفزع بعض الكتّاب والمثقفين واللغويين -دومًا- من الحديث عن تطوير استخدام «العامية» فى الأدب.

 ودومًا يشهرون أسلحة الإنذار المبكر لتهديدنا وتخويفنا من انهيار صرح اللغة العربية المتين أمام العامية المهلهلة، وأن تراثنا العريق سوف تنسفه تلك القصائد والقصص والمسرحيات، التى تستخدم مفردات اللهجة العامية فى التعبير.

والذين يعملون على تخويفنا لا يدركون أن اللغات لا تنمحى ولا تبقى لمجرد نداءات من هذا أو دعوات من ذاك، ولكن اللغة كائن اجتماعى ينمو ويعمل ويتطور ويضمحل ويشمخ ويتقزّم تبعًا لمواضعات وعناصر عديدة، بعيدة عن الدعوات والنعرات، ولا يمكن -مثلًا- أن تجد حيًّا يذكر «مكر مفر مدبر مقبل معا.. كجلمود صخر حطّه السيل من عل» للشاعر الجاهلى امرئ القيس.

فبعد الاستخدام الواسع الذى فعلته أفواج من الشعراء والناثرين والروائيين المصريين عبر القرن العشرين كله، وما زالوا يرتكبون الجرم الفادح هذا، لم تنمحِ اللغة العربية، ولم يهجر الناس قراءة القرآن الكريم، وانهيار استخدام اللغة العربية فى الإعلام والمدارس والجامعات ليست له علاقة قريبة أو بعيدة بذلك الاستخدام الواسع، ولكنه انهيار يرتبط بمستويات التعليم الهابطة، أو التوسُّع فى التعليم الأجنبى، وإقبال الفئات القادرة على الالتحاق بذلك التعليم.

ولن نستطيع أن نحمّل انهيار اللغة العربية، أو استخدامها بشكل سليم، لرهط الشعراء والناثرين، الذين أجرموا وكتبوا بالعامية المصرية، واكتشفوا مواطن جمالها المتعددة، بداية من عبد الله النديم وبيرم التونسى وبديع خيرى وسليمان نجيب وحسين شفيق المصرى وأبو بثينة ومحمود تيمور ومصطفى مشرفة وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودى وعثمان صبرى ويوسف إدريس وسيد حجاب ومجدى نجيب، حتى يسرى حسان وصفاء عبد المنعم ومحمد داوود ومسعود شومان ووفاء المصرى.

وعلى عكس ما قال الدكتور طه حسين -يومًا- إن العامية لن تصلح ولن تكون لغة أدبية على مدى الدهر، يكتب أحمد ضيف مقدمة نقدية مهمة وبديعة، لكتاب «أدب الشعب» عام 1936، يقول: «يرى أدباء اللغة العربية أن الأدب هو ما كان سائرًا على النهج الفصيح، وأنه إذا خرج على طريقة القدماء من حيث نظم القصيد، والأساليب العربية وأغراض الشعر المعروفة، من مدح، وهجاء، ونسيب… إلخ، والمعانى التى ذكرها هؤلاء القدامى فى شعرهم، بل الأخيلة والآراء الجزئية كالتشبيهات والاستعارات والكنايات التى فى شعر القديم، لا يكون أدبا ولا شعرا عربيا... ونسى هؤلاء أن للعامة أخيلة وآراء، وعبارات، تدل على حياتهم الاجتماعية العامة للشعوب، كما تدل آراء الخاصة وأخيلتهم على تلك المعانى المملوءة بالثقافة الخاصة، وقد ضربوا بكلام العامة وآرائهم عرض الحائط تجنبًا لما عساه أن يمس اللغة العربية الفصيحة أو أن يحوّلها إلى طريق آخر وبما كان من وسائل الهدم أو الفناء».

وعندما نستند إلى طه حسين هنا، لا ننكر بأى شكل من الأشكال نضاله العتيد فى إشعال الثورة فى كل ما هو رجعى ومتخلف على مدى عقود طويلة فى القرن العشرين، وما زالت -وستظل- صيحاته التنويرية أو التثويرية تفعل فعلها حتى الآن، ولا ينكرها إلا مجنون وعابث، ولكننا -كذلك- لا نستطيع أن نتجاهل تقريعه لأدباء حقبة الخمسينيات، مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح حافظ وغيرهم، ودخول هؤلاء معارك ضارية معه، خصوصًا نظرته الدونية للعامية المصرية فى الأدب، وذلك فى الوقت الذى جاء فيه صلاح جاهين وفؤاد حداد على وجه الخصوص، وكان الأخير قد أصدر ديوانَين هما «أحرار وراء القضبان»، عام 1952، وطالب فيه حداد بالإفراج عن المسجونين السياسيين، ثم ديوان «حنبنى السدّ» عام 1955، وارتبط الديوانان بالأحداث السياسية الجارية، ولكنهما لم يكونا -على الإطلاق- على غرار الشعر السياسى الركيك والمباشر، الذى لا يبتعد عن نشرات الأخبار إلا قليلًا.

والذى اتضح أن هذا الشاعر استطاع أن ينتزع مكانة خاصة للعامية المصرية من خلال القصائد العبقرية التى راح يضرب بها فى كل اتجاه، ويعبّر بها عما لا تستطيع «الفصحى» أن تفصح عنه، واكتشف مساحات من الجمال والتعبير مدهشة من خلال دواوين «بقوة العمال والفلاحين والحمل الفلسطينى وغيرها من الدواوين».

وفى 21 يوليو عام 1966 ينشر قصيدة فى مجلة «صباح الخير» عنوانها «ورد»، وذلك احتفالًا بذكرى ثورة 23 يوليو، يقول فيها، وتأملوا ما يبدعه:

«أول ما قول يا سلام

فرحان اللى باقدر أغنى

وان كنت ما اعرفش أسامى المكن فى السد

شوفوا حبى لمصر شوفوا المعجزة

فرحان اللى ماكبرتش على العلام

عيونى من الإخلاص مابتتغيرش

عيونى فى كل يوليه جديدة

أولادى تلاته وانا الرابع

يا يوليه اتنين وخمسين

سجلت اسمى فى مواليدك

قالت يا شاعر وحاوطتنى السنين

اشى ع الشمال واشى ع اليمين

احنا قدم سعد وأغانى فرح

كل ولد اتولد فى أيامنا غنوة

الكتاب يتقرى من عنوانه

مطلعنا بشرف سندسى

يفرش حياته بأنغام الخير».

ولا نريد أن ندلل على أن فؤاد حداد استخدم العامية فى رقى مذهل، هذا الاستخدام الذى لن نجده فى اللغة الفصحى، ليس لعجز الفصحى، ولكنها لا تتسع للمفردات والتركيبات والجمل والروح الخاصة بالعامية المصرية، ولذلك فمن المستحيل أن يكون الإبداع بالعامية المصرية عامل هدم للعربية الفصحى وثقافتها وتاريخها وتراثها ومقدساتها على الإطلاق، الإبداع شىء، والهدم والانهيار شىء آخر.

التحرير