|

اللغة العربية.. هذا الكائن الهش
أ. ناصر عراق
لم تشهد اللغة العربية طوال تاريخها الطويل هجوما شرسا على حصونها مثلما تشهده فى الأعوام العشرين الأخيرة، فالناس تتعامل معها بضراوة وغل، إن لم يكن باستخفاف وسخرية، ومن يتابع الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعى -«فيسبوك» و«تويتر»- سيعتريه الذهول من حجم الطعنات التى تتلقاها اللغة الفصحى كل لحظة!
هذه الطعنات لا تأتيها من قِبل أفراد محدودى التعليم أو ما شابه فقط، وإنما من أناس تلقوا تعليما عاليا، وبعضهم كتاب وأدباء وصحفيون، الأمر الذى يشى بأننا أمام معضلة حقيقية فى طبيعة علاقتنا باللغة.
من المعروف أن اللغة -أية لغة- مثل الكائن الحى يولد ضعيفا ثم ينمو ويتعزز بالفتوة والشباب والحيوية، وفى النهاية ينتابه الوهن والعجز حتى يموت، واللغات الحية فقط هى التى تمتلك قدرات مدهشة على مواجهة الشيخوخة والعجز والضياع، فتجدد نفسها، وتنتبه إلى طبيعة العصر وضروراته، فتتخلص من المفردات والتراكيب التى تحول دون تطورها، وتغذى قاموسها بأساليب وكلمات جديدة تواكب التطور الذى يطاردها كل ساعة!
أجمل ما كتبه المتحدثون باللغة العربية من شعر ونثر كان فى العصر العباسى، أى أيام ما كانت الدولة الإسلامية الجديدة تتمتع بالقوة والحضور والنضارة، ومع الانهيارات التى طالت العرب طوال ثمانية قرون تالية تضعضعت أحوال اللغة، وفقدت بريقها، ومن يقرأ (تاريخ الجبرتى) قبل مئتى سنة فقط يكتشف البؤس الذى بلغته لغتنا الفصحى، حتى أطل علينا القرن العشرون، وإذا بالشعب المصرى يكتشف قوته وذاته فى ثورة 1919، فتنتفض جوارحه بعشق الوطن، وتمتلئ أعطافه بالرغبة فى التحرر والتقدم. هنا.. وهنا فقط ينهض المثقفون المصريون بالمهمة الكبرى، وهى تطوير اللغة العربية وانتشالها من مستنقع الركاكة البائس الذى سقطت فيه قرونا عدة.
فى النثر كما فى الشعر تألقت اللغة العربية على أيدى كوكبة مدهشة من الكتاب والمبدعين المصريين، من أول طه حسين والعقاد والمازنى وتوفيق الحكيم ومحمد التابعى ونجيب محفوظ، حتى شوقى وحافظ وشعراء جماعة أبوللو، ومن جاء بعدهم من رواد الشعر الحديث مثل عبد الصبور وحجازى وأمل دنقل.
لا يغيب عن بالك بطبيعة الحال أن اللغة هى انعكاس واضح وصريح لحال المجتمع، فإذا حقق المجتمع قفزات إلى الأمام فى مجالات الفكر والتكنولوجيا والحقوق السياسية انتعشت اللغة وتطورت تلقائيا، أما إذا انصاع المجتمع للأفكار البالية، وخاصم التطور المتزايد فى العالم، فإنه سيظل أسيرا للغة تنكمش وتتضاءل وتعجز عن مواكبة العصر.
انظر حولك واحكم بنفسك.. هل مجتمعاتنا العربية تواكب العصر؟ هل نفكر ونبتكر ونطور؟ للأسف الشديد فنحن الآن غَدَونا عالة على الحضارة الحديثة، فكل ما نستخدمه فى حياتنا اليومية لم يخترعه العرب، من أول الموبايل والتليفزيون حتى السيارة والمترو.. أكاد أجزم أن كل ثمار التكنولوجيا زرعت فى الغرب وما نحن لها سوى مستهلكين!
هذا هو حالنا بكل صراحة ووضوح، فهل يمكن أن تتطور لغتنا الفصحى؟ وهل الأمر يقتصر على سوء تعليم اللغة فى المدارس؟ أم أننا أمام مشكلة اجتماعية كبرى تتعلق بالسياسة والاقتصاد والثقافة!
لا تقل لى -رجاء- إن القرآن الكريم أنزله الله عز وجل بالفصحى، وإنه -سبحانه- سيحفظ اللغة، فهو القائل«(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، لا تقل لى ذلك، لأنى سأخبرك أن الله هو من يحفظ اللغة، لكن عباد الله -أى نحن- من ندمرها ونستخف بها!
من فضلك.. تخيل معى مصير اللغة الفصحى بعد نصف قرن فقط من الآن!
التحرير
|
|
|
|