اللغة .. اعتناقٌ فانعتاق

أ. سمية وادي



بين تبديل الحرفين تكمن البداية والنهاية، فغاية الجمال أن يأسرنا، وغاية الأجمل أن يعتقنا، وما من هويةٍ إلا وندفع لها السمع والبصر، كي تهبنا الحدس والرؤيا، وهذا سبيلنا مع أجلّ وأنبل ما يمثّل هويتنا وشرعيتنا ودوراننا في حلقة الألوان دون أن نمتزج مع دوامة الأمم والشعوب الأخرى .. ألا وهي اللغة.

لكل مجتمعٍ لائحةٌ تعلّق على جياد قاطنيه لمجرّد موافقتهم على أن يمثلهم، واللغة مهما كانت هي الواجهة الأولى لهم، وقد كانت اللغة علامة احترام الفرد أمام الآخرين، فبقدر ما يمتلك منها يأخذ حظه الوافر، ولا تزال حضارة القرن الحادي والعشرين ممثلةً بالعولمة تسحق تحت سنابك عمالقتها من هم دون مستوى الركب، فتخلفت أمم وحلّقت أخرى، وانطوت ألوية وارتقت سواري، وكل لواءٍ يهمّش لغة قومه لا يعوّل عليه.

لا شك أن العرب من أكثر الأمم اعتزازاً بلغتهم، فهي رأس مالهم في صحاريهم المجردة، وهي تكوينهم وملامحهم ودينهم الذي ارتضوا، وقد شهدت كل الحضارات على ما أنتجوا لها من معاجم وقواميس وأشعار، حتى جمعوا للكلمة الواحدة ألف معنى، وخطوا بالحروف مشي النياق، وعدو الخيل وصليل السيوف، وعزف الريح، وما تركوا شاردةً ولا واردةً إلا وقد تمثلت عياناً في الرموز (الحروف).

وبينما بدأ العربيّ يمعن النظر في النجوم والأبراج ويكتب الشعر في الطبيعة حوله، كان إنسان العصر يتسلّح بالحجارة ويسدّ منافذ النور عن قلبه ولسانه، وحين فتح العربيّ الأمصار ووسع حضوره في بلاد الفرس وأفريقيا وشرق آسيا باسم اللغة والدين، أحاطت التكنولوجيا الغربية بعقل العربي المعاصر وعلّقت رأسه في أضوائها الزائفة، سمع العربيُّ الشعرَ وروى الكتب مشافهةً، وسمع المعاصرُ أغاني الراب وموسيقى البوب شفاهاً، ومضى القديم يكتب على الخشب والألواح، وعاد الجديد ليكتب على الألواح الذكية، والشاشات المضيئة، تكلم العربي القديم وصار مسلّحاً بحصن اللغة الحصين، أما اليوم فقد صار يسأل عن لغته التي انطوت كطيّ السجل للكتب، وكما بدأ أول خلقٍ عاد يتساءل: كيف نتكلم العربية!؟

لا يكفينا أن نمدح لغتنا ونبرّئ ذمّتنا منها لمجرد قولنا: لن نقول إلا "لا نعرف ما نقول"، وكأننا اختصرنا العابر والغابر في هذه العبارة الجافة، ونغسل أيدينا منها، وقد علّقنا يافطاتٍ إنجليزية، وأهدينا في المناسبات الحروف اللاتينية، وظلت العربية اللون البني المحروق في ذاكرة العربي المودرن (أصحّح خطأً وأقع فيه)!

هذه ليست دعوةً للوقوف مع هذا الرجل المريض، أو تقديم التبرعات في صندوق أبي تمام والمعري، وإنما ناقوسٌ ينبه الغافلين من أمناء اللغة أنّ الخطر محدقّ بهم، وليس في ذا الكائن الافتراضي، فكل انقراضٍ في هذا العالم يقرّب الإنسان من الفناء، والأمة التي تنسى لغتها، وتتعلق بأستار غيرها، ستؤكل حيث أكل، فخادم لغته سيّد نفسه، واللغة عملة الرجل، إن امتلكها فقد امتلك الوجهان، أما فقراء اللغة، فهم بين بين!


الرسالة