جدل حول الدارجة والفصحى في ظل أزمة هوية حادة

د. محمد قيراط

جدال كبير هذه الأيام في الجزائر حول استعمال العامية كلغة التدريس في الأطوار الأولى في التعليم الابتدائي بحجة تقريب التلميذ من المحيط اللغوي والاجتماعي الذي يعيش فيه.

والغريب في الأمر أن الصحافة الناطقة باللغة الفرنسية في الجزائر انحازت إلى الوزيرة التي تبنت المشروع، وأطلقت حملة شعواء ضد كل من انتقد المشروع أو عارضه أو ناقشه.

والأغرب كذلك هو الكلام عن الدارجة في عصر تتهافت الأمم على التمسك بهويتها ووحدتها ولغتها التي تعتبر سر قوتها ونموها وازدهارها.

تاريخيا تعرضت الجزائر إلى إستراتيجية جهنمية من قبل الاستعمار الفرنسي للقضاء على هويتها وحضارتها وتاريخها بفرض اللغة الفرنسية والقضاء على اللغة العربية ومنعها واستعمال بدلا منها الدارجة، فأصبحت كيب تكتب باللغة العامية من أجل القضاء نهائيا على لغة القرآن وعلى الدين الإسلامي باسم الحضارة الفرنسية وبشعار الجزائر فرنسية.

كان الثمن باهظا وما زال، حيث إن ترسبات الاستعمار الفرنسي ما زالت قائمة إلى اليوم، وحيث إن أتباع فرنسا من الفرانكوفونيين والفرانكوفيليين ما زالوا يدافعون عن فرنسا وثقافتها ويتنصلون من جذورهم وأصولهم وتاريخهم وحضارتهم ويتبرأون من العربية والإسلام.

عندما تتكلم وزيرة التربية عن الدارجة في التعليم فأي دارجة تتكلم عنها؟ دارجة العاصمة أم الجنوب أم الشمال، أم الشرق أم الغرب أم الوسط أم ماذا؟ وعندما تتكلم عن الدارجة؟ أي دولة في العالم تستعمل في مدارسها العامية؟ فلتمدنا سعادة الوزيرة بالتجارب الناجحة في العالم حتى نقتدي بها ونستفيد. والغريب في الأمر أن الطفل في الأطوار الأولى من التعليم في الجزائر وفي غيرها من الدول العربية يحفظ القرآن، فبأي لغة يا ترى يتعلم القرآن. وهنا نلاحظ أن ما فشل فيه الاستعمار الفرنسي الغاشم من طمس الهوية الجزائرية خلال 130 سنة تحاول هذه الأيام بعض الأوساط التي تسمي نفسها خبراء في البيداغوجية والتعليم واللسانيات وغير ذلك للقضاء على أحد مقومات الهوية. فيعلم هؤلاء أن اللغة هي ليست مجرد وعاء، بل هي القلب النابض لوحدة الأمة وهويتها وشخصيتها وقوتها الفكرية والعلمية والأيديولوجية. وكان الأجدر بالوزيرة ومستشاريها التفكير في تطوير تدريس اللغة العربية بالوسائل الرقمية والوسائط المتعددة المختلفة حتى يتحكم فيها الطالب ويستوعبها ويوظفها أحسن توظيف لكسب المعارف والتكنولوجيا.

إذا نظرنا إلى إشكالية اللغة يجب أن ننظر إليها ليس كمجرد وسيلة بريئة أو كناقل للأفكار والمعاني والتجارب وإنما كثقافة وكحضارة وكذاكرة اجتماعية. اللغة هي هوية الشعب والأمة واللغة هي الرافد الرئيسي لتطوره وتقدمه وعلومه وابتكاراته واختراعاته. واللغة هي القاسم المشترك الذي يجمع الأمة في التعبير عن أفراحها وأتراحها واللغة هي الناقل الذي يلّم الشعب ويوّحده. فإذا أردنا أن نتكلم عن إشكالية اللغة، فإنه يجب علينا ألا نفرغها من محتواها ومن أيديولوجيتها وأبعادها المختلفة، سواء كانت دينية أم سياسية أم حضارية أم أمنية أم قومية … والقائمة قد تطول. فاللغة إذن تحدد لنا كيف نفكر وكيف نلبس ونأكل ونمرح ونمزح، فهي وعاء كبير قد يلّم معاني وأفكارا ومعتقدات وسلوكيات تعكس الفرد في بعده الإنساني والحضاري والثقافي والاتصالي والديني والاجتماعي. ولهذا نرى دولا كبيرة وعريقة تنفق مئات الملايين من الدولارات سنويا لنشر لغتها التي تعكس ثقافتها وحضارتها وتاريخها وطريقتها في الأكل واللباس وغير ذلك. فلا غرابة أن تؤسس فرنسا منظمة الفرانكوفونية وتنفق عليها بسخاء لتحافظ على انتشارها في إفريقيا وآسيا ودول كثيرة أخرى في أنحاء العالم. بريطانيا من جانبها ومن خلال الكومنولث تعزز كذلك مكانة اللغة الإنجليزية في العالم ومن خلال اللغة ينشر البريطانيون حضارتهم وتاريخهم وطريقة معيشتهم ورؤيتهم للأشياء. فها هو المجلس الثقافي البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية تنتشر في معظم عواصم والمدن الكبرى في العالم، سواء في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية. وهنا نتساءل ماذا فعل العرب لنشر اللغة العربية وجعلها لغة العلم والفكر والحضارة والدين الإسلامي؟ أين هي المراكز الثقافية العربية في العواصم العالمية؟ وما هو الدور الذي تلعبه الملحقات الثقافية في السفارات العربية في العالم لنشر اللغة العربية؟

اللغة تقوى بشعبها وأمتها وتقوى كذلك بالإنتاج العلمي والفكري والثقافي، فاللغة تسود وتنتشر في العالم بالعلم والمعرفة التي ترفدها. كما أن حركة الترجمة تعطي دفعا قويا للغة للانقتاح والتثاقف وتكييف فكر وعلوم الآخرين للمواطن العربي.

الواقع مع الأسف الشديد يبعث على التشاؤم وعلى الحسرة والألم لأسباب عديدة، من أهمها أن الإنتاج العلمي والمعرفي والثقافي والفكري العربي لا يتواجز 1% من الإنتاج العالمي. بالإضافة إلى ذلك نلاحظ أن حركة الترجمة في الوطن العربي، سواء من اللغات الأجنبية إلى العربية أو من العربية للغات الأخرى، لا يكاد يذكر وهذا يعكس ضعف الاهتمام والاستثمار في هذا المجال والذي يعتبر رافدا إستراتيجيا للغة وانتشارها والإقبال عليها. ففي العالم العربي أصبح الكلام يدور حول حماية اللغة العربية وليس حول نشر اللغة العربية وتطويرها وتكييفها مع تطورات العصر، لتبقى لغة العلم والمعرفة والتكنولوجيا. فاللغة تقوى بالعلم والإنتاج المعرفي والثقافي وتنتشر وتتوسع من خلال ما تقدمه من علوم وحضارة وثقافة.

ما وصلت إليه اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة شيء مخزٍ ومؤسف، حيث أصبحت معظم هذه الوسائل خاصة السمعية والبصرية منها تتفنن في استعمال اللهجات والعامية والدارجة وهذا بافتخار واعتزاز والمبرر هو أن العامية بسيطة ومفهومة لدى الجميع. وإذا رجعنا إلى موضوع العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى نجد أن بعض المستشرقين والحاقدين على العرب والمسلمين، خاصة هؤلاء الذين كانوا يهدفون إلى طمس الهوية العربية ودفن الإسلام والحضارة الإسلامية، كانوا يصرون على استعمال العامية وهذا ما حدث على يد المنظرين للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. وبذلك نجد الكثير من المستعمرين الفرنسيين في الجزائر، على سبيل المثال، كانوا يصرون ويشجعون على استعمال الدارجة والابتعاد بقدر الإمكان عن اللغة الفصحى مما جعلهم ينشرون كتبا بالدارجة ويشجعون كل من يستعمل العامية في التعليم والنشر والاتصال الرسمي وهم في نهاية الأمر من نشروا ثقافة تزييف القرآن وتحريفه وتجريده من معانيه الصحيحة من خلال شبكة من المشعوذين وأشباه الأئمة.

بوابة الشرق