ألف تحية.. لقانون حماية اللغة العربية

أ. ابراهيم كشت

هل باتت اللغة العربية بجلالها وعظمتها بحاجة إلى حماية ؟ وهل تحمل تسمية القانون الذي نحن بصدده بـ (قانون حماية اللغة العربية) دلالة على حاجة هذه اللغة فعلاً إلى الحماية ؟ أعتقد أن الجواب هو «نعم» .
 لكن ممن تجبُ حمايتها ؟ أظن أن الموضوعية والوضوح والصراحة تقتضي القول إنها بحاجة للحماية من أبنائها وأهلها والناطقين بها أنفسهم ، فقد صار بعضهم ، أو كثير منهم ، ينبذ لغته ، أو يستبعدها ، بل وربما يخجل أحياناً من استخدامها ، ويفخر باستخدام الانجليزية بدلاً منها ، في نمط عجيب من السلوك لا تجده لدى الأمم الأخرى ، وبالاستناد إلى مبررات لا يدعم الواقع صدقَها ، كالقول بأن شؤون المال والأعمال والتجارة والتواصل مع الثقافات والحضارات تستوجب الحديث والكتابة بغير العربية ، وكأن اليابانيين والكوريين والألمان مثلاً قد نبذوا لغتهم ليبلغوا ما هم عليه من تطوّر ..

وتأكيداً لما تقدم ، أســوق للقارئ الكريم بعض الأمثلة المستقاة من واقع التجربة والعمل والملاحظة ، لموقف الكثيرين من لغتهم :

الشركات والعقود
هذه شركة أردنية (مثلها الكثير) ، مالكوها والقائمون عليها والعاملون فيها أردنيون ، تقدم خدمات عادية مما تعارف الناس عليه ، تتعاقد مع شركة أردنية مثلها ، فتقدم العقد المقترح توقيعه بينهما باللغة الانجليزية ، فهو وحده النموذج المعتمد لديها (المنقول أصلاً من خلال الانترنت عن نموذج جاهز) وتقبل الشركة الأخرى توقيعه ، حيث تتمسك كلتاهما بهذا المظهر المزيف الذي يعتبر التعاملات باللغة الانجليزية دليل فخامة ورقي . وينصحهما المستشار القانون بأن يجعلا عقدهما عربياً مُبيْناً ، لأنه لو نشأ نزاع بينهما ولجأت إحدى الشركتين للقضاء ، فسوف تضطر لتقديم ترجمة عن العقد للمحكمة ، والترجمة قد تضيع وضوح عبارات العقد، وقد تصور نيّة العاقدين على غير حقيقتها ، لكنهما لا تستجيبان ..! فالمسألة ليست مسألة توثيق إرادة الطرفين بعقد وإنما مسألة مظاهر في التعامل ..

اسم الشركة ..!
هذه شركة أخرى (مثلها الكثير) تحاول أن تتخذ إسماً لها باللغة الانجليزية ، فلا تفلح ، لأن الجهات الرسمية ترفض تسجيل الشركة أو الاسم التجاري بغير اللغة العربية ، فتلجأ إلى ترجمة معنى اسمها إلى اللغة الانجليزية لاستخدامه في تعاملاتها ومراسلاتها وعقودها وتحرير شيكاتها وإرسال حوالاتها ، ثم تصطدم الشركة ببعض الجهات الواعية قانونياً ، والتي ترفض هذا الاسم المترجم ، فأسماء الشركات والهيئات المعنوية هي كأسماء الأشخاص الطبيعيين لا تستخدم مترجمة إلى معانيها ، وإلا فقدتْ بُعدها القانوني في الدلالة على صاحبها . غير أن الشركة لا تقتنع ، وتلجأ لوسيلة أخرى وهي توثيق الترجمة لدى مترجم معتمد وتصديقها من الكاتب العدل إصراراً على استخدام الاسم الانجليزي غير المسجّل وغير الرسمي . أو تلجأ لاستخدام العلامة التجارية بدل اسمها المسجل قانونياً ، وهي لا تعرف أن العلامة التجارية تميّز السلعة أو الخدمة ولا تميّز اسم شركة ..! لماذا كل ذلك ؟ هل سيرفض المصدّرون والمستوردون التعامل معنا إذا كانت شركتنا تحمل اسماً عربياً كتب بحروف انجليزية بدل ترجمة معنى الاسم للانجليزية ؟ هل تنظر الجهات الأجنبية التي تتعامل معنا إلى جودة منتجاتنا وخدماتنا وصدقنا في التعامل أم إلى الأسماء التي نستخدمها ؟ هل تذكرون شركات التعامل بالبورصات الأجنبية التي احتالت على الأردنيين ؟ لقد كان معظمها يحمل أسماء مثل : الثقة ، الأمانة ، الصدق .. فهل كانت لهذه الأسماء من دلالة ؟

السيرة الذاتية باللغة الإنجليزية
لقد بات عُرفاً مقترناً في الأذهان بالإلزام ، أن يقدم كل طالب وظيفة سيرته الذاتية إلى جهة العمل باللغة الانجليزية ! سواء أكان يتقن الانجليزية أم استعان بمن يتقنها لإعداد تلك السيرة له ، أو نقلها بدون فهم أو احتراف من موقع الكتروني ، وسواء أكان موظفو الموارد البشرية وشؤون الموظفين في جهة العمل يتقنون كلهم أو بعضهم اللغة الانجليزية أو لم يكونوا كذلك .. أفلا يكفي أن تكون السير الذاتية المقدمة للوظائف في معظمها منقولة عن نماذج جاهزة ، تجعل كثيراً مما تطّلع عليه منها متشابهاً (فكل المتقدمين يمتازون بالقدرة على العمل تحت الضغط ، والعمل مع الفريق ، ويتمتعون بروح المبادرة والقيادة ...!) وفوق ذلك يجب أن تقدم باللغة الانجليزية إمعاناً في عدم الصدقية ؟

سيارة للبيع وشقة للإيجار
حتى هذا الشخص البسيط الذي يرغب ببيع سيارته القديمة المهلهلة (وهذا أمر لا يعيبه أبداً) يضع عليها ورقة كتبت باللغة الانجليزية بأنها للبيع (وهذا أمر قد يعيبه) ، وصاحب الشقة الذي يرغب بتأجيرها يرفع على نافذتها عبارة بالانجليزية تفيد بأنها للإيجار ..! لماذا ؟ هل يعني ذلك أنك لا تبيع ولا تؤجر إلا من يعرف الانجليزية ويستطيع بالتالي قراءة إعلانك ؟ أم أن استخدامك اللغة الانجليزية سيرفع من قيمة سلعتك ؟ أم أنها عادةٌ درجتْ ، فاقتبسناها دونما تفكير ؟

 لماذا..؟
الخوض في أسباب هذا الموقف من اللغة العربية ، ومحاولة استبدالها باللغة الانجليزية في الحديث الشفهي والكتابة والمعاملات التجارية والرسمية ، لا يمكن أن تلم به مقالة موجزة ، لكن لا يمكن أن نرد أسبابه إلى وسائل الاتصال الحديثة ، فهي مجردة أداة ، وهي تتيح الطباعة والحديث وإضافة المعلومات واسترجاعها باللغة العربية ، ولا يمكن أن نرده كذلك إلى الاستعمار والغزو الثقافي فلا حاجة لأي جهة لأن تغزو أمةً تستحي من لغتها وتفخر بلغة غيرها . إن أسباب نبذ المجتمع للغته نفسية وثقافية ، تفسرها مقولة ابن خلدون عن تقليد المغلوب للغالب ، وتفسرها حقيقة ُأن الطبقات الميسورة ، القادرة على تعليم ابنائها والسفر إلى الخارج، ترغب عادة في أن تميّز نفسها بما لا تملكه ولا تقدر عليه الطبقات الأخرى ، هذا مع رغبة الطبقات الأخرى في تقليدها للتظاهر بأنها جزء منها..! وتفسرها كذلك رغبة من يفتقد إلى الجوهر لأنه يتمسك بالقشور ، وتفسرها أشياء كثيرة أخرى البحث فيها يطول ..
وبعد،     تحية لقانون حماية اللغة العربية الذي نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 1/7/2015 وسوف تسري أحكامه اعتباراً من 31/8/2015 ، فقد ألزم الدوائر والمؤسسات الرسمية والخاصة والشركات ومؤسسات المجتمع المدني باستخدام اللغة العربية السليمة في تسمياتها ومعاملاتها وعقودها وأنظمتها ومنشوراتها وإعلاناتها ، وألزم المعنيين في الجامعات والمدارس باستخدامها في التدريس والأبحاث ، وفرض غرامة من ألف إلى ثلاثة آلاف دينار على من يخالف هذه الأحكام . مع أن التشريع وحده لا يكفي ، فالتنفيذ مهم ، ومع أن القانون وحده لا يكفي أيضاً ، فللمؤسسات الإعلامية والتعليمة والثقافية دور مهم في إفهام الناس بأبعاد هجرهم للغتهم وتمسكهم بتقليد القشور دون الجوهر .
أخيراً ، يجب التنويه إلى عدم فهم ممما تقدم التقليل من أهمية إتقان اللغة الانجليزية وتعلمها ، وما لذلك من دور في تطوير التعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد . إلاّ أن ذلك كله لا يعني أن اللغة الانجليزية بديل للغة العربية .

الرأي