|

الفصحى هل وحدها هي لغتنا الجميلة؟
أ. شريف مليكة
من منا لا يتذكر البرنامج الإذاعي الأشهر "لغتنا الجميلة"، من إعداد وتقديم الشاعر فاروق شوشة، الذي طالما نقل إلينا دررًا من اللغة العربية، القديم منها والحديث؟
وأنا هنا لست بصدد الكتابة عن ثراء لغتنا العربية الفصحى وجمالها. لكنني أود فتح باب النقاش - من جديد- في أمر الكتابة باللهجة المصرية العامية، أو الشعبية، كما يحلو للبعض تسميتها.
وقد اختلف الباحثون، بشأن تصنيف أمر اللغة العامية والفصحى في البلاد العربية. وطرحت قضية ازدواجية اللغة أو ثنائية اللغة. فبعضهم يرى أنهما لغتان مختلفتان كثيرًا، من ناحية المفردات أو تركيب الجملة وقواعدها، حتى تكادا تصيران لغتين.
والبعض يقول إن الفرق ليس جذريًا، وهما مشتركتان في العديد من الكلمات والأفعال ومشتقاتهما، وبالتالي يَجب ألا تُصنفا كلغتين منفصلتين، أو اعتبارها ازدواجية، وإنما ثنائية لنفس اللغة.
وأنا أكتب في هذا الموضوع لأنه ــ في رأيي ــ موضوع في غاية الأهمية للمجتمع المصري، والعربي بوجه عام. كما أن نخبة من أساطين الأدب والثقافة في العقود الأخيرة تناولوه. ومنهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ورائد الرواية العربية الأستاذ محمد حسين هيكل، وراهب الثقافة المصرية في القرن العشرين الدكتور لويس عوض، والمسرحي الكبير الأستاذ ألفريد فرج، وغيرهم كثيرون.
وكانت وجهات نظر هؤلاء تنقسم بين إجلال للفصحى ودحض للعامية، أو الدفاعٍ عن العامية لأنها لغة الناس التي ينبغي أن يخاطبهم بها الكاتب.
وهذا المأزق الذي أرق الكثيرين، يخصني على نحو شخصي. فلقد تجرأت يومًا أن أكتب شعرًا بالعامية المصرية التي أعشقها، وأرى فيها حقًا لغتنا الجميلة. سمع شعري الأستاذ ألفريد فرج، الذي ساقتني الأقدار ــ أو أقول المصادفة البحتة ــ وأن تتجمع الظروف الغريبة، فتؤدي بي إلى لقائه.
شجعني المسرحي الكبير على نشر ما كتبته لأنه ــ بحسب قوله ــ لم يعد ملكي بعد أن كتبته. وبالفعل احتوى القصيدة أول ديوان صدر لي في مايو 2004 بعنوان "دواير". ومن يومها، وعلى الرغم من صدور أربعة دواوين لي بالعامية، إلا أن السؤال الذي لا يزال يُطرح في كل حفل توقيع، أو نقاش حول عمل، هو لماذا أكتب بالعامية؟ وكأنني أرتكب عملًا مشينًا، أو أخون لغتي العربية التي هي لسان آبائي وأجدادي لقرون طويلة.
وكانت الحجة الدائمة هي أني أكتب لكل العرب وليس للمصريين فقط، وتناسى الكثيرون ما سمعته بنفسي من أصدقاء من عرب الخليج ومن بلاد الشام، وكيف يعشقون العامية المصرية.
ومؤخرًا، وبعد عشرات السنين، كتب الشاعر والناقد شعبان يوسف مقالًا في جريدة التحرير بعنوان: «اللغة العامية» فى الأدب بين طه حسين وألفريد فرج بتاريخ 18 يوليو 2015.
حمَّسني المقال للرد عليه، فكتبت له أقول: "عزيزي الأستاذ شعبان يوسف، لست أدري كم من الوقت ينبغي أن يمر حتى نحسم هذه المسألة في بلادنا. أحب أن أوجه نظر قرّائك إلى أن الغرب كان في عصره الأدبي الكلاسيكي، يلجأ في أغلب كتاباته إلى اللغة الفصيحة، والبلاغة الأدبية المُنسقة، والصور الجمالية، والتشبيهات بل والسجع والموسيقى اللغوية أحيانًا. وكان في هذا يتفق مع ما كتبه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في مقالك".
لكني أحب أن أقول أيضا إنه مع دخول الأدب أعتاب القرن العشرين، سرعان ما تسللت اللغة الدارجة إلى كتابات عتاة الروائيين من أمثال فولكنر وهيمنجواي ومارك توين.
بل وتحول فطاحل الأدب العالمي، منذ بدايات القرن الماضي في شتى أنحاء العالم، من أمثال ماركيز وساراماجو وپاموق وغيرهم من حملة نوبل، في الكتابة بنفس الأسلوب. بل ودخلت كلمات وأصوات لفظية، تعبر عن لكنة الشخصية وجذورها الاجتماعية في كتابات هوجو وديكنز وتوين.
إذن فقد تخطى الغرب منذ نحو قرن من الزمان ــ أو أكثر ــ تلك الإشكالية، ومازلنا نناقش اليوم جدوى الشعر العامي، والكتابة الأدبية بوجه عام باستخدام اللغة الدارجة المعبرة بإخلاص عن الشخصية الأدبية المقصودة، حتى من خلال الحوار المكتوب، أو الحالة الشعرية التي يعيشها شاعر العامية.
متى نتخطى تلك الإشكالية يا ترى؟
أعتقد أن فن الكتابة مثله مثل باقي الفنون هو كيانٌ حيٌّ. لذا فهو يخضع لعملية التطور الزمني، شئنا نحن أم أبينا. فحتى كتابتي اليوم بالفصحى تختلف في الأسلوب والبنيان بل والمفردات عن مقال بعنوان "العامية والفصحى في اللغة العربية" كتبه الدكتور محمد حسين هيكل عام 1954، أي قبل نحو ستين عامًا أو أكثر قليلًا، ولكنك تحسبها قرونًا طويلة حين تقرأوه.
وكذلك لغة الكتابة الأدبية، فهي في تغير وتنوع مستمرين، حتى في كتابات مبدع واحد. فعلى سبيل المثال فقد كتبت الشعر العامي، والقصة والرواية باللغة الفصحى. وفي شعري العامي أجدني أستخدم تعبيرات فصحى، كما أجد في كتابة الفصحى أحيانًا ما يستدعي كتابة حوار، أو حتى مجرد كلمة عامية، لا سبيل عن استبدالها في سياق القصة أو الرواية.
ومن يجرؤ مثلًا أن يبخس قدر رباعيات الشاعر العظيم صلاح جاهين حقها لأنها مكتوبة بالعامية؟ فهاهو يقول في إحدى رباعياته:
"فتحت شباكي لشمس الصباح/ ما دخلش منه غير عويل الرياح/ وفتحت قلبي عشان أبوح بالألم/ ما خرجش منه غير محبه وسماح/ عجبي".
فهل الصباح (وليس الصبحية)، وهل عويل الرياح ألفاظ عامية؟ وهذا مثال واحد لأحد أساطين شعراء العامية.
ثم لماذا يدور هذا النقاش في معترك كتابة القصة والرواية والشعر تحديدًا؟
لماذا نسمح بالكتابة العامية في أشكال أخرى من الكتابة الأدبية مثل المسرح، والأغاني، أو سيناريو الأفلام؟ أليست كلها أشكالًا أخرى من الكتابة الخيالية؟ لِمَ لم ننتقد أم كلثوم أو عبد الوهاب حين غنيا: "طول عمري بخاف م الحب وسيرة الحب" أو "الميه تروي العطشان وتطفي نار الحيران".
هل كان علينا أن نطالبهما بالالتزام بغناء "يا فؤادي لا تسل أين الهوى" أو "جفنه علَّم الغزل ومن العلم ما قتل". أو هل جرؤ أحد على أن يحط من شأن أحمد رامي كشاعر حين كتب الأغاني لهؤلاء؟
حين قال عميد الأدب د.طه حسين: "أخشى على اللغة العربية من أشعار بيرم التونسي" أغفل عامل الزمن وتطور اللغة الطبيعي. ولو مد الله في عمره وأطاله، لكانت كتاباته لابد ستتغير.
وهكذا وجدنا في كتابات الأستاذ العظيم نجيب محفوظ ــ صاحب نوبل، ففي رواياته الأولى كانت اللغة أكثر كلاسيكية ومفرداتها أكثر فصاحة، في حين اتصفت لغة كتاباته اللاحقة بالخفة والرشاقة، واستخدم كلمات تجمع بين العامية والفصحى مثل: "معلم" و"سي السيد" أو "قهوة" على سبيل المثال.
والعامية أيضًا تطورت. فأشعار الرائد العظيم بيرم التونسي تختلف مفرداتها وموضوعاتها عن لغة شعراء العامية اليوم. لكن ذلك لا يعني أن تنتصر العامية على الفصحى، أو تدحر الفصحى العامية. ولكنهما بوجهيهما المتطوران عبر الزمن، سوف يبقيان معا، لغة الأدب والثقافة والمعرفة.
بوابة الأهرام
|
|
|
|