بين الهوّة والهوية وبين اللغو واللغة

أ.د. جمال ضو




في‮ ‬ندوة‮ "‬الشروق‮" ‬التي‮ ‬عُقدت مؤخرا حول واقع اللغة العربية في‮ ‬المنظومة التربوية،‮ ‬تدخل أحد الحضور وهو رئيس أحد فروع جمعيات أولياء التلاميذ من مدينة خنشلة،‮ ‬مبديا رأيه في‮ ‬أزمة اللغات والتعليم في‮ ‬الجزائر‮. ‬في‮ ‬الحقيقة لم أفهم كثيرا مما قال،‮ ‬ولكن خاتمة كلامه كانت جملة واضحة،‮ ‬حيث قال‮ "‬إن أزمتنا وأزمة التعليم والجزائر أزمة هوية‮". ‬مقولة‮ "‬أزمة الهوية‮" ‬ليست وليدة اليوم ولكنها أصبحت تطرح بحدة في‮ ‬خضم ما تشهده الساحة من تناكف حول قضايا اللغة والبُعد الحضاري‮ ‬للجزائر‮.‬

لست هنا للتأصيل لمسألة الهوية،‮ ‬ولا أزعم أنني‮ ‬أستطيع ذلك،‮ ‬ولكن السؤال الذي‮ ‬أود طرحه‮: ‬ما الذي‮ ‬يقصده هذا الطرف أو ذاك عندما‮ ‬يلخّص أزمة الجزائر في‮ ‬الهوية؟ فإذا كان معنى الهوية للفرد واضحا وسهل التعريف،‮ ‬فإنني‮ ‬أجد صعوبة بالغة في‮ ‬تعريف واضح لمفهوم الهوية لبلدٍ‮ ‬ما في‮ ‬عصرنا الحالي‮. ‬فلو أخذنا كلام أخينا من خنشلة على ظاهره فإن مشكلتنا أننا لم نقل إن الجزائر أمازيغية،‮ ‬ومن وجهة نظر جزائريين آخرين أننا لم نقل الجزائر عربية وهكذا‮. ‬من الصعب فهم هذا المنطق وكيف أن البلاد ستتحول إلى جنة بمجرد أن نقول أنها أمازيغية أو عربية؟‮! ‬وشخصيا ليس لديّ‮ ‬مانع إذا كان هذا‮ ‬يريح قطاعا عريضا من الجزائريين أن‮ ‬ينص الدستور على أن الجزائر أمازيغية،‮ ‬ولكن ماذا بعد؟ هل هذا سيحل مشاكلنا ويتصالح المجتمع مع ذاته؟ أم سيدخلنا في‮ ‬هوة سحيقة أخرى من الصراع؟ أعرف أمما ودولا أخرى لا هوية واضحة لها ولم تصبغ‮ ‬مجتمعها بأي‮ ‬هوية،‮ ‬بل هي‮ ‬وعاء لكل المِلل والنحل ولكنها تتزعم العالم وتتحكم في‮ ‬مصائر أمم تدعي‮ ‬أن لها هوية وحضارة ضاربة الجذور في‮ ‬التاريخ‮.‬

الآن،‮ ‬ربما‮ ‬يقصد أخونا بالهوية هو أن تأخذ اللغة الأمازيغية‮ - ‬التي‮ ‬لا أعرف لها بالمناسبة تعريفا واضحا إلى‮ ‬غاية اليوم وسأعود إلى هذا الموضوع لاحقا‮-  ‬مكانتها كلغة رسمية للبلاد،‮ ‬وهنا أجد نفسي‮ ‬متفهما لموقفه لأنه‮ ‬ينقلنا من التنظير إلى مطلب عملي‮ ‬وواضح إلى حد ما‮.‬

إن من أشدّ‮ ‬أزمات النخب الجزائرية هي‮ ‬الاكتفاء بالتنظير من دون طرح عملي‮ ‬يفضّ‮ ‬هذا الاشتباك اللغوي‮ ‬الحاصل في‮ ‬الجزائر،‮ ‬والذي‮ ‬أرى أنه وهمي‮ ‬وفيه كثير من اللغو الذي‮ ‬أرهق البلاد والعباد بقصد وعن‮ ‬غير قصد‮.‬

المطلب الذي‮ ‬ظل‮ ‬يرفعه كثيرٌ‮ ‬من الجزائريين منذ عقود عديدة،‮ ‬وبشكل خاص بعد الاستقلال وبشكل أخص بعد إنشاء الأكاديمية البربرية في‮ ‬فرنسا سنة‮ ‬66‮ ‬بُعيْد قانون إدخال التعريب في‮ ‬الجزائر،‮ ‬هو أن تصبح الأمازيغية لغة رسمية مثل العربية‮. ‬طبعا أسال هذا الموضوع كثيرا من الحبر ومازال‮ ‬يسيل،‮ ‬وكُتبت كتب ومقالات،‮ ‬ولكن الشاهد أن الصراع ما زال‮ ‬يراوح مكانه،‮ ‬بل وزادت حدته وأصبح مقترنا بالتطرف وبشيء من العنصرية مُؤذِنة بفتن عظيمة داخل المجتمع‮. ‬ما‮ ‬يعتقده الكاتب هو أن هذا الصراع لا‮ ‬يمكن حسمه بالقلم والنقاش الفكري‮ ‬مثله مثل باقي‮ ‬الصراعات الإيديولوجية والفكرية،‮ ‬بل‮ ‬يحسم بمنطق حرية الاختيار،‮ ‬فنحن أمام مطلب ترسيم الأمازيغية كلغة رسمية ولكن السؤال الذي‮ ‬يجب طرحه هو‮: ‬ماذا‮ ‬يعني‮ ‬ذلك؟‮.‬

لست هنا لأناقش تاريخ اللغات الأمازيغية ولا تعدد اللهجات الأمازيغية واختلافها،‮ ‬ولا لإهمال المدافعين عنها لها،‮ ‬فهم لا‮ ‬يستعملون إلا الفرنسية للدفاع عنها تقريبا،‮ ‬ولا ماهية اللغة التي‮ ‬يقصدها البعض،‮ ‬فهل هي‮ ‬تلك التي‮ ‬تم إعدادها في‮ ‬مخبر الأكاديمية البربرية بباريس؟ أم شيء آخر؟ وكيف سنقنع الشلوحة والتوارق وبني‮ ‬مزاب والشاوية والقبائل وغيرهم بلغة واحدة تختلف في‮ ‬حالات اختلافا جذريا عما‮ ‬يتكلمونه؟ ولكن سأحاول طرح الحقيقة مجرّدة من دون وضع أي‮ ‬مساحيق للتجميل أو التشويه‮.‬

الخطوة التي‮ ‬يجب أن تتخذ هي‮ ‬أن تصبح اللغة الأمازيغية لغة رسمية مثلها مثل العربية،‮ ‬على أن تدرّس كلغة أولى لمن أراد أن‮ ‬يختار بينها وبين العربية،‮ ‬لأنه لا‮ ‬يمكن أن نفرض على أي‮ ‬جزائري‮ ‬أن‮ ‬يتعلم لغة لا‮ ‬يرغب فيها،‮ ‬فمن لم‮ ‬يرد تعلم العربية فله كامل الحرية ونفس الشيء بالنسبة للجزائري‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يرغب في‮ ‬تعلم اللغة الأمازيغية،‮ ‬وخاصة وهو‮ ‬يعلم أنها لغة لا‮ ‬يوجد بها مؤلف واحد تقريبا،‮ ‬على أن‮ ‬يتم استفتاء الشعب في‮ ‬اللغة الثانية،‮ ‬والتي‮ ‬تكون لغة التواصل بين من لا‮ ‬يتقنون كلا اللغتين معاً،‮ ‬فإذا أختار الشعب الفرنسية فله ذلك،‮ ‬أما إذا إختار الانجليزية كلغة ثانية وطنية فمن حقه ذلك‮. ‬في‮ ‬الحقيقة هذا الطرح ليس بدعة ولا شيئا جديدا،‮ ‬فهناك دول مثل سويسرا وكندا تتعايش فيها اللغات بهذا الشكل تقريبا‮.‬

طبعا هذا الاقتراح وعلى الرغم من أنه‮ ‬يعطي‮ ‬كل ذي‮ ‬حق حقه ويسحب البساط من تحت أقدام ممن اتخذوا بعض القضايا اللغوية والهوياتية مطية لبث كل أنواع الفرقة والكراهية داخل المجتمع الجزائري‮ ‬وإرهاقه،‮ ‬إلا أنني‮ ‬على‮ ‬يقين أنه سيكشف عن مفارقات صادمة وحقائق مفزعة،‮ ‬وسيلقى أشكالا من المعارضة المصطنعة،‮ ‬لأن الراسخين في‮ ‬أبعاد‮  ‬هذه الأطروحات‮ ‬يعرفون جذورها وأهدافها؛ فالصراع لم‮ ‬يكن‮ ‬يوما بين العربية والأمازيغية،‮ ‬فالعربية ليست لغة من‮ ‬ينسبون أنفسهم إلى العرب في‮ ‬الجزائر،‮ ‬بل هي‮ ‬لسان الأمازيغ‮ ‬أيضا كتبوا وأبدعوا بها لقرون،‮ ‬وهذا إذا كان لهذا النوع من التصنيف العرقي‮ ‬معنى في‮ ‬الجزائر بعد‮ ‬14‮ ‬قرنا من الانصهار‮. ‬إن معضلة الجزائر ليست في‮ ‬الصراع بين الأمازيغية والعربية،‮ ‬بل في‮ ‬دخيلٍ‮ ‬على هذا المجتمع اسمه الفرنسية تحول إلى عقيدة وإيديولوجية وهوية رسمية للبلاد،‮ ‬وإذا خرجت هذه اللغة من الباب فإن الصراع الهوياتي‮ ‬الجزائري‮ ‬سيتبعها من النافذة كما دخل‮.‬

الشروق