اللغة وطن و جنسية
منجي بن أم هنة
بعد أن هدأت ثائرة العرب خلال النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، على إثر الفتوحات الكبرى التي قاموا بها خاصة خلال العهد الراشدي و الخلافة الأموية، و دخول العديد من الأقوام و اللغات داخل الفضاء السياسي و الاقتصادي العربي الذي شمل رقعة جغرافية شاسعة امتدت من حدود الصين شرقا إلى بلاد الأندلس غربا.
و بعد أن تجاوز العرب خلال ذلك الصراعات التي نشأت بينهم حول مفهوم الخلافة و الحكم انطلاقا من موقعة الجمل سنة 36 هجري إلى سقوط الدولة الأموية سنة 132 هجري التي كادت أن تعصف بمشروع الدولة الفتية.
بعد هذين الحدثين الهامين انصرف خلفاء بني العباس، إلى الاهتمام بالمجالات العلمية و الفكرية ، انطلاقا من عهد الرشيد و تحديدا في عهد المأمون الذي شهد نهضة علمية و فكرية غير مسبوقة، حيث استفادت بغداد، حاضرة العالم في ذلك الوقت من إرث الحضارة اليونانية، و البيزنطية، و الفارسية ، فقد أنشأ المأمون مجمعا علميا عظيما ببغداد أوكل إلى القائمين عليه من العلماء من أمثال يوحنا بن ماسويه مهمة ترجمة ما وقع بين أيديهم من التصانيف النفيسة في شتى العلوم، و الفنون، و الآداب.
أنشأ المأمون إلى جانب المجمع العلمي، مرصدا فلكيا و مكتبة عامة زخرت بشتى العناوين باللغات السريانية، و اليونانية، و الفارسية و ما يقابلها من الكتب المترجمة إلى اللغة العربية ، كما شجع المأمون على المناظرات العلمية ، و فتح باب المجادلة و مقارعة الرأي بالرأي بين أهل الملل و النحل . و لقد أجرى المأمون على العلماء و المترجمين رواتب وهبات من بيت مال المسلمين، حتى أنه كان يصل العالم في الترجمة حنين بن إسحاق، على كل كتاب ينقله إلى العربية ما يعادل وزنه من الذهب.
من خلال هذه المقدمة المطولة نسبيا أردت التمهيد للحديث عمّا يدور هذه الأيام في الكواليس و في العلن ، و ما يُقدم على أنه إصلاح يشمل المنظومة التربوية و التعليمية بتونس دون الإشارة لا من قريب و لا من بعيد إلى مسألة الوعاء أو بالتحديد إلى اللغة التي ستحمل هذا الإصلاح، هل هي اللغة العربية ؟ اللغة الأم، أم سنواصل الاعتماد على اللغة الفرنسية في تلقين العلوم و الفنون، و إعادة لَوك مقولة عجز اللغة العربية على مواكبة التطور العلمي و المعرفي ؟
أسئلة محورية يجب الإجابة عنها بكل وضوح، حتى يتبن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قبل الخوض في أي موضوع آخر، فكل البلدان الناشئة تعتمد على لغاتها الأم في تدريس العلوم و الفنون، فكوريا الجنوبية، و تركيا، و إيران، على سبيل المثال تدرس الطب و الهندسة و كل ضروب الفنون بلغاتها الأصلية ، و هي بلدان صاعدة على درب التقدم و الرقي ، فلماذا لا نقتفي بها ؟ و نعلنها صراحة أن كل إصلاح تربوي و تعليمي خارج اللغة العربية ،يُعد إصلاحا أعرجا لا يستقيم به الحال، فلقد أجمعت جل الدراسات العلمية المرموقة أن درجة الفهم و الاستيعاب لدى الناشئة تظل منقوصة في حالة التعلم بغير اللغة الأم ، كما خلُصت هذه الدراسات إلى أن التعلم باللغة الأم يوفر على التلميذ و الطالب الوقت و الجهد و يجعله مبدعا في ميدان اختصاصه، فلا أحد يصل درجة الإبداع و التميز التي ننشدها جميعا بلغة غيره ، خاصة و قد تجرعنا مرارة الخطأ القاتل الذي وقعت فيه دولة الاستقلال بتوخي منظومة تعليمية هجينة، هي عبارة عن خليط غير متجانس بين اللغتين العربية و الفرنسية ، أوصل مستوانا التعليمي إلى الحضيض بشهادة جميع المتداخلين في القطاع.
أليست اللغة العربية هي التي استوعبت فكر كبار العلماء في ميادين علمية و فلسفية و اجتماعية مختلفة ؟ ظل طيلة عصور المرجعية الأولى في العالم ، ووقعت ترجمة هذا الفكر إلى اللغات الأروبية، حيث انبنت النهضة العلمية الغربية على ما وجده علماؤهم في بطون تلك الكتب و المؤلفات.
كتاب القانون في الطب لابن سينا، و مقدمة ابن خلدون في علم العمران البشري، و كتاب الجبر و المقابلة للخوارزمي، و خرائط الإدريسي، و مجموع كتب و رسائل ابن الهيثم التي ناهزت مأتي مؤلف في الرياضيات، و الفيزياء، و علم الفلك، و علم الطب، كلها كُتبت باللغة العربية، فكيف تعجز هذه اللغة عن استيعاب علوم العصر ؟
اللغة ليست أصواتا و كلمات يعبر بها فحسب بل هي - كما تقرِّره أحدث الدراسات العلمية– تتجاوز ذلك لتشمل قيادة عقل الإنسان و طريقة تفكيره، كما أنها حافظة البصمة الثقافية للمجتمع، و أهم وسيلة للحفاظ على كيانه. و تختلف كل لغة عن غيرها من اللُّغات بسمات جوهرية ترتبط بالمعطيين التاريخي و الثقافي، فلا يمكن لتونس و هي مقدمة على إصلاح تربوي و تعلميي أن تقوم بهذه الخطوة بنجاح إذا واصلت تحقير اللغة العربية ، و عزلها في تلقين بعض الشؤون الدينية و الأدبية، دون أن تطرق بها باب العلوم و الفنون.
يقول مصطفى صادق الرافعي: "إنَّ اللغة مظهر من مظاهر التَّاريخ، والتَّاريخ صفة الأمة، فاللّغة هي الصفة الثَّابتة التي لا تزول إلاَّ بزوال الجنسيَّة وانسلاخ الأمَّة من تاريخها".
و يقول فوسلر": "إنَّ اللّغة القوميَّة وطن روحي يأوي من حُرِم وطنه علي الأرض".
فالرجاء و كل الرجاء الّا تحرمونا جنسيتنا و وطننا، فما قيمة المرء إذا عاش بلا وطن و بلا جنسية ؟
|
|
|