المطابع.. تقفز بالكتاب من النسخ اليدوي إلى الطباعة الرقمية

حمود الضويحي

كان التدوين منذ القدم يشغل بال الكثيرين لتوثيق الأحداث المهمة حيث انبرى عدد من المحتسبين إلى تدوين بيوع الناس ووصاياهم وحجج استحكامهم في رقاع من الجلد ثم الورق بعد اكتشافه، ولرغبة العلماء في تدوين علمهم ونقله إلى الناس فقد كانوا يعمدون إلى كتابة ذلك إما بأيديهم إن كانوا يحسنون الكتابة أو إلى أحد تلاميذهم النجباء الذين لديهم مهارة ودقة وسرعة في الكتابة، لذلك كان الكتاب له قيمة كبيرة لا تقدر بثمن لدى العلماء وطلاب العلم ويرجع ذلك إلى ندرته، فقبل اختراع الطباعة كان هناك أشخاص مهمتهم النسخ وهو نقل الكتب لتكثير نسخه ليستفيد منها الباحثون وطلاب العلم على مرّ الأزمان، وكانوا يصرفون جل وقتهم في الكتابة التي امتهنوها وصارت تدر عليهم ربحاً من المال، وقد كان في طليعة الكتب التي عمد الناس إلى تدوينها هي آيات القرآن الكريم حيث يمضي أحدهم أياماً وربما شهورا من أجل كتابة مصحف واحد وكانت تلك مهمة شاقة فبعد أن ينتهي الناسخ من الكتابة يقوم بترتيب صفحاته ومن ثم يقوم بحبكها وربطها بالخيوط

وأخيراً يجعل لها غلافاً ليكون لها تجليداً لحفظ أوراقها من التمزق وعادة ما يكون من الجلد، وبالأمس القريب وقبل توحيد المملكة كانت جوامع البلدان تحتوي على عدد قليل من المصاحف التي يقرأ فيها من يرتاد تلك الجوامع كلها كان مكتوباً بخط اليد ولم يكن هناك مصحف مطبوع، والحقيقة بأن النساخ وهم من يقوم بنسخ ونقل الكتب باليد قد حفظوا لنا العديد من المؤلفات في شتى العلوم بهذه الطريقة لمئات السنين وبلغت الآلاف والتي تزخر بها عدد من مكتبات العالم اليوم في قسم (المخطوطات)، وقد يظن البعض بأن اختراع الطباعة وانتشار الكتب المطبوعة لم يحدث إلا في العهد القريب إذ لم نكن نعرف ذلك إلا في منتصف القرن الهجري المنصرم فقد عرف أول كتاب مطبوع في المملكة عام 1343 ه وهو كتاب تحفة الناسك بأحكام المناسك من تأليف الشيخ سليمان بن عبدالله الذي أمر بطبعه الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - بمطبعة أم القرى بمكة المكرمة، ولكن الحقيقة أن الطباعة والمطابع وجدت منذ مئات السنين.

بداية الطباعة

ويعود الفضل في اكتشاف الطباعة إلى الألماني (جوهان جوتنبرغ ) الذي ولد عام 1400 م، وتوفي 1468 م كما هو مشهور، إذ يقال إنه هو الذي اخترع الأحرف المتنقلة في أوروبا، وأدخل عليها تحسينات في مدينة ستراسبورج، ولكنه نقل مطبعته إلى مسقط رأسه في مدينة (ماينز) عام 1440 م، أو على رواية أخرى بعد ذلك بقليل في عام 1448 م، حيث طبع الكتب بها، ويقال إن كتبه الأولى ظهرت في السوق نحو عام 1445 م والسنوات التالية، ومنها كتاب (الكاهنات العرافات) وكتاب (النحو اللاتيني) في ثلاث طبعات، ورغم السرية التي أحاط بها (جوتنبرج) اختراعه إلا أن الطباعة انتشرت انتشارًا سريعًا في البلاد الأوروبية الأخرى حيث ظهرت الطباعة في روما سنة 1465م وفي البندقية سنة 1469م، وفي باريس سنة 1470م وفي برشلونة سنة 1471م وفي إنجلترا سنة 1474م .

الطباعة بالعربية

عُرفت الطباعة بالحروف العربية في عام 1486م حيث طبع في عام 1505م في مدينة غرناطة كتابان بالعربية هما: وسائل تعلُّم قراءة اللغة العربية ومعرفتها، ومعجم عربي بحروف (قشتالية)، بتوجيه من الملك فردينان وزوجته إيزابيلا، وأكد بعض الباحثين على أن أول مطبعة عربية وأحرفها عربية، ظهرت في فانو بإيطاليا بأمر البابا يوليوس الثاني، ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1514 م، وأول كتاب عربي طبع فيها في تلك السنة كتاب ديني، وبعد ذلك طبع القرآن الكريم في البندقية، ولكن لم تصلنا منه نسخة ما، لأن جميع النسخ أحرقت، وقد طبع في مطبعة باغانيني المشهورة في البندقية، وقد نشر المستشرق (غويوم بوستيل) الأستاذ في كلية فرنسا مبادئ اثنتي عشرة لغة شرقية بحروفها الأصلية، واستعمل المستشرق المذكور في طباعة القواعد العربية التي صدرت مع باقي المجموعة في باريس سنة 1538 م أحرفا عربية، وكان هذا الكتاب أول سجل مطبوع للغة العربية في باريس.

وفي عام 1585 م قام الطباع البندقي (بازا) بعد أن انتقل إلى روما بطبع مؤلف جغرافي عربي هو الأول من نوعه باللغة العربية خال من الدعاية الدينية وهو كتاب (البستان في عجائب الأرض والبلدان) ومؤلف الكتاب سلاميش بن كندغدي الصالحي، وفي نفس هذه الفترة طبعت بعض الكتب العربية في المدن الألمانية.

الطباعة في الدول العربية

وكان أقدم كتاب عربي طبع في البلاد العربية هو كتاب طقسي كنسي طبع في حلب باليونانية والعربية سنة 1702م، ثم طبع فيها الإنجيل سنة 1706م بعد ذلك تأسست المطابع في بلاد الشام منذ القرن السابع عشر، ثم تنامت في القرن الثامن عشر وكان مؤسسوها من النصارى من رجال الإرساليات أو من رجال الكنيسة الشرقية، ولم تهتم هذه المطابع بالحاجات الثقافية للمجتمع الشامي وإنما كانت مطابع تبشيرية تمحور اهتمامها بطبع ونشر الكتب الكنسية، أما في مصر فقد ظهرت أول مطبعة وهي تلك المطبعة التي جاء بها نابليون بونابرت معه حين غزا مصر عام 1798 م، حيث كانت هذه المطبعة مطبعة كلية التبشير، التي كان نابليون قد صادرها في طريقه إلى مصر، وقد جلب نابليون أيضا المترجمين المارونيين الذين كانوا يعملون في كلية التبشير واستخدمهم في الجيش الفرنسي ومنحهم رواتب خاصة، وقد جهزت هذه المطبعة بأحرف الطباعة العربية والتركية واليونانية ولغات أخرى، ومن بين العشرين نشرة التي أصدرها الفرنسيون، كانت نشرة واحدة فقط تهم، واستمرت هذه المطبعة تعمل لثلاث سنوات، حتى خرجت من مصر مع خروج الحملة الفرنسية منها عام 1801 م، وظلت مصر من دون مطبعة لمدة عشرين عاما.

وكانت هناك مطبعة فرنسية أخرى في مصر ثم ضمت فيما بعد إلى المطبعة التي كان يديرها مارسيل، وعندما انسحب الفرنسيون من مصر أخذ مارسيل المطبعة معه إلى فرنسا، حيث استخدمت لطبع الآثار الأدبية الشرقية، وفي عام 1821 م أنشأ محمد علي باشا والي مصر آنذاك مطبعة (بولاق) الشهيرة وباشر بطبع الجريدة الرسمية للحكومة (الوقائع المصرية) فيها، كما نشر فيها المنشورات الخاصة بالحكومة، فضلا عن الكتب العسكرية والكتب الأخرى، حتى بلغ عدد الكتب التي طبعت فيها بين السنوات 1822 - 1842 م ما مجموعه 243 مادة في موضوعات مختلفة، منها مواد عسكرية، وطبية، ورياضية، وهندسية، وتأريخية، وأدبية وغير ذلك، وكان أول هذه المطبوعات قاموس دون روفائيل (إيطالي / عربي) وأصبحت هذه المطبعة من أشهر المطابع العربية التي نشرت الكثير من الكتب التراثية والأدبية والعلمية، وانتشرت مطبوعاتها في البلاد العربية والإسلامية، وتواصل عملها عشرات السنين، وامتاز الكثير من مطبوعاتها التراثية بالضبط والإتقان.

أول مطبعة في الجزيرة العربية

وأسست الحكومة العثمانية أول مطبعة في الجزيرة العربية في صنعاء باليمن عام 1877م، حوالي عام 1295ه، بعدها عرفت مكة المكرمة المطابع عام 1300ه (1883م) حيث أنشأت الحكومة التركية فيها مطبعة رسمية كما ذكر ذلك الأستاذ محمد الشامخ في كتابه (نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية)، فقد أسس والي الحجاز وقتها عثمان نوري باشا مطبعة حكومية بمكة المكرمة وهي المطبعة (الميرية) كما كانت تسمى في بعض الأحيان (مطبعة الولاية) أو(مطبعة ولاية الحجاز) وقد انشأها الشيخ أحمد زيني دحلان ليطبع فيها كتب العلوم ليكثر انتشار العلم في موضع مهبط الوحي المكين وكانت المطبعة في بدايتها يدوية زودتها الحكومة التركية عام 1302ه بآلة طباعة متوسطة ولم تكن في مستوى المطابع الكبرى التي ظهرت في مصر، والتي اتجه إليها علماء الحجاز لطبع مؤلفاتهم وكانت موضع عناية الدولة العثمانية فامتدت لها يد الإهمال إلى أن دخلت الحجاز في حكم الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه فدبَّتْ فيها الحياة مرة أخرى، وسميت بمطبعة أم القرى والتي طورت وحسن وضعها بإضافة بعض الآلات الجديدة وتزويدها بالفنيين وأصبحت هي المطبعة الحكومية الرسمية ، وفي عام 1354ه وعام 1356ه أضيف إليها قسم خاص بالتجليد وخصصت لها بناية خاصة، وأرسل مجموعة من الشباب إلى مصر للتخصص في فن الطباعة، وصدر عام 1347ه أول نظام للمطابع والمطبوعات، وفتح المجال لافتتاح وتأسيس المطابع ضمن شروط ميسرة، كما ظهر في الحجاز العديد من المطابع الأخرى، مثل مطبعة شمس الحقيقة بمكة التي ظهرت عام 1327ه ، ومطبعة الترقي الماجدية بمكة عام 1327ه، ومطبعة الإصلاح في جدة عام 1327ه أيضًا، فانتشرت المطابع في المملكة، وزاد عدد المطبوعات، وأرسلت أول بعثة إلى مطبعة بولاق بمصر للتخصص في فن الطباعة وفروعه عام 1375ه، وعرفت المدينة المنورة أيضاً مطبعة (الفيحاء) التي أسسها عام 1346ه أحمد الفيض أبادي مؤسس ومدير مدرسة العلوم الشرعية بالاشتراك مع عبدالحق النقشبندي، وفي العام التالي1347ه نقلت المطبعة السلفية من القاهرة إلى مكة المكرمة حيث اشترى محمد صالح نصيف مطبعة دار المنار من رشيد رضا بالقاهرة واشترك محمد نصيف مع عبدالفتاح قتلان في إدارتها بعد نقلها إلى مكة المكرمة، وقد أصدر محمد صالح نصيف جريدة (صوت الحجاز) وتولى طباعتها بالمطبعة السلفية وصدر عددها الأول في 27 ذي القعدة عام 1350ه، وفي عام 1354ه أسس محمد سرور الصبان المطبعة العربية بمكة المكرمة بعد أن اتفق مع محمد صالح نصيف على شراء امتياز صحيفة صوت الحجاز، وفي العام التالي 1355ه اشترى عثمان حافظ مطبعة الفيحاء بالمدينة المنورة لتكون نواة لمطبعة المدينة المنورة، وتم إصدار جريدة المدينة المنورة الأسبوعية والذي صدر عددها الأول في 25 محرم عام 1356ه، وفي جدة أسس الشيخ عبدالرحيم صدقة عبدالفتاح مطبعة الفتح عام 1349ه كما أسس محمد رضا حسين باسلامة عام 1371ه مطبعة أخرى باسم مطبعة (فضل الرحمن الوطنية).

أول مطبعة في نجد

وبالنسبة للمنطقة الوسطى فقد بدأ الشيخ حمد الجاسر رحمه الله يطالب بتأسيس مطبعة وإصدار جريدة منذ عام 1372ه حيث بدأ العمل بها عام 1374ه وحقق حلمه في إصدار أول مطبوعة في قلب الجزيرة العربية، وبعد ذلك بعامين انشأ أول مطبعة في نجد، كما أسهم بعد عشرة أعوام في تأسيس واحدة من كبريات المؤسسات الصحفية الوطنية وانشأ أول دار أهلية متخصصة في البحوث، وثاني مطبوعة بحثية أهلية بعد المنهل وهي مجلة العرب، وكان إصدار أول صحيفة في تاريخ المنطقة الوسطى يعد ملحمة اكتنفتها صعوبات جمة إذ ان الإقدام على تأسيس اول مطبعة في الرياض لم يمر هو الآخر عبر بساط احمر او اخضر بل سار في طريق مليء بالأشواك والعقبات ويروي في مقالاته رحمه الله التي سجل فيها تاريخ الطباعة والصحافة ونشرها في مجلتي العرب والمجلة العربية تفاصيل مغامرته التي بدأ التفكير فيها في مطلع السبعينيات الهجرية - الخمسينيات الميلادية وذلك في الوقت نفسه الذي كان يفكر فيه بإصدار الصحيفة فلقد حصل على الإذن المبدئي لهما معا من لدن ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز في 13/4/1372ه وذلك ابان عهد والده المؤسس رحمهما الله، وقد كان صدور الصحيفة الرائدة اليمامة الذي استمر عشرة أعوام مزيجا من التحديات الإدارية والفنية والرقابية والمالية حتى توقفت بشكل نهائي في سنتها العاشرة وذلك اثر صدور نظام المؤسسات الصحفية سنة 1383ه لتفسح المجال لقيام مؤسسة صحفية عملاقة تحمل الاسم نفسه، بعد أن صمدت عقدا من الزمن بفضل من الله ثم بعزيمة قوية من مؤسسها وحفاوة بالغة من القراء ومساندة صادقة من المثقفين ودعم معنوي من أمير منطقة الرياض آنذاك خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله حتى فرضت نفسها علامة بارزة في تاريخ الصحافة السعودية وتوجت رائدة لصحافة قلب الجزيرة العربية، أما في المنطقة الشرقية فقد أسس خالد محمد الفرج في عام 1375ه مطبعة صغيرة في الدمام سماها المطبعة السعودية، وفي المنطقة الجنوبية عرفت الطباعة عام 1385ه حيث أسس محمد بن أحمد العقيلي (مطبعة جيزان) التي بدأت العمل حوالي عام 1387ه.

تشجيع المؤلفين

وأدى التشجيع الدائم والمستمر للكتاب والمؤلفين والدعاة وتقديم الإعانات المادية والمعنوية للمطابع من لدن المغفور له الملك عبدالعزيز ودعمه الكلي والجزئي لطباعة العديد من الكتب وخصوصا ما يتعلق بأمور الدين والتاريخ واللغة العربية، فمن المعروف عن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه حبه للعلم وإجلاله للعلماء وتقريبهم منه، وكشاهد على ذلك ما ذكره عبدالعزيز الرفاعي في كتابه (عناية الملك عبدالعزيز بنشر الكتب) أنه كان للملك عبدالعزيز مجلس خاص للاطلاع والمعرفة وكثيرا ما تكون هناك مناقشات وحوارات يثيرها الملك بنفسه ويشترك فيها بعض الحاضرين، لذلك لا نعجب إذا اتجه إلى طبع نفائس كتب التراث، أو من كتب العلم المهمة أو ما يتصل بالدعوة، أو الكتب الأدبية والشعرية، التي كان يرى تشجيع أصحابها بنشرها على حسابه وتوزيعها مجانا لطلاب العلم ومحبي المعرفة، كما كانت لطباعة المصحف عناية خاصة توجت بتأسيس مجمع الملك فهد رحمه الله لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة ساهم في نشر عشرات الملايين من النسخ داخل وخارج المملكة.

طباعة عصرية

ومرت الطباعة بمراحل من التطوير حيث كانت البدايات متواضعة ويغلب عليها العمل اليدوي الشاق وذلك بسبك الحروف وطريقة الطباعة الحجرية ومن ثم انتقلت إلى مراحل تقنية متقدمة وظهر أخيراً ما يسمى بالطباعة الرقمية التي أتاحت الدقة والسرعة في الطباعة بشتى الألوان والصور الشديدة الوضوح وساهمت في دفع عملية التأليف وسرعة الوصول الى المعلومة ونشر العلم وتسهيله وباتت الكتب الحالية كتباً عصرية بأناقتها وخفة وزنها وأحجامها الصغيرة التي تغري الكثيرين باقتنائها خصوصاً إذا كانت مواضيعها شيقة ومفيدة.

الرياض