أقسام اللغة العربية في الجامعات: من العزلة إلى مرحلة الفرجة والصمت
قال لي أحدهم .. « ليس للالتحاق بقسم اللغة العربية في الجامعات دور في أن يتحول المرء إلى مثقف .. فتلك دراسة أكاديمية محضة وتخصص بعيد عن تحويل المسار لدى المتعلم إلى ثقافة مؤثرة ووعي فكري وأدبي وخلق في الإبداع « .. لم أفهم كثيرا . ما السر خلف فصل الثقافة عن أقسام اللغة العربية كدراسة في الجامعات حتى إن كانت دراسة أكاديمية .. فماذا يمكن أن يكون للغة العربية دور فيه إذا ما أسهمت في إعادة بناء فكر الإنسان بشكل خلاق ومختلف عن السائد ؟ ما الهدف من إيجاد أقسام في الجامعات للغة العربية تدرس الأدب والفن والشعر والصرف والأوزان إذا لم تعلمنا كيف ترتفع ذائقتنا نحو الحياة حتى نعرف كيف نلتهم كل تجربة بها حس إبداعي خلاب ؟ ما المانع أن تسهم تلك الدراسة الأكاديمية في تنشيط جميع المرافق الثقافية . وأن تقدم الكثير من الإسهامات حتى يصبح العامة قادرين على تذوق الحياة بجميع صورها. على أن ترتقي بالمجتمع نحو نشاطات حقيقية مدروسة تعلم تنمية الكثير من الفنون وتحتضن المواهب إلى جانب المؤسسات الثقافية الأخرى .. أين هي أقسام اللغة العربية في جامعاتنا من كل ذلك المهرجان الثقافي الكبير ؟
قبل سنوات عديدة .. وفي قسم اللغة العربية كنت أدرس كيف أتذوق الحياة من خلال تفكيك ألوانها وتحويل ذلك جميعا إلى فن .. أي كان شكل ذلك الفن .. أتذكر بأن تجربة الدراسة في قسم اللغة العربية كانت ثرية جدا لي ففي علم العروض والقافية كنا نتعلم كيف نطرق بأصابعنا على طاولات المدرج بنغمات تنسجم مع قافية قصيدة الشعر التي كنا ندرسها لشاعر من الشعراء في عصر ما لنكتشف من أي بحر جاءت تلك القصيدة .. كانت الموسيقى تختبئ خلف علم تلك المادة . كنا كطالبات بعد أن نخرج من مدرج المحاضرة نحاول أن نربط تلك المتعة بمتعة التقرب من اكتشاف الحياة بشكلها المرن .. كانت اللغة العربية في حقيقتها تعيد بناء الانسان الذي بداخلنا .. تغيرنا كثيرا مع الدراسة في أقسام اللغة العربية .. وأصبحنا أكثر امتلاء بتفاصيل الحياة ..هناك قرأنا عن الحب الأسطوري الذي كان يجمع بين قيس وليلى بكل تداعيات ذلك العشق دون تحفظات في الوقت الذي كان يصعب علينا الحديث بصراحة عن الحب خارج ذلك المدرج ، درسنا عن نزاعات الانسان مع الذات وكيف يتحول ويتغير مع مرور المحن . في الوقت الذي كان يصعب فيه علينا أن نفكك محننا الشخصية خارج المدرج .. فهل يمكن أن تبقى – حقا – أقسام اللغة العربية بعيدة عن نشاطات تغير من مسارات الفرد وتعيد بناء فكره وتبني ثقافة ؟
على تلك الاقسام في الجامعات أن تعيد النظر في مسارها وأن يكون للغة العربية دور في نشاطات مختلفة وحقيقية قوية في المجتمع لتخلق الثقافة بداخل العامة قبل النخبة من المثقفين ، ليس هناك مفر من أن يكون لتلك الاقسام أدوار أهم بإعادة بناء الانسان بشكل أكثر جدية عما عليه .. فعلى الرغم من وجود أقسام للغة العربية يقوم عليها أكاديميون مميزون في التدريس إلا أن هؤلاء لم يستطيعوا أن ينجوا بالمنهج الأكاديمي إلى الخارج .. وبقيت اللغة حبيسة مدرج يحتشد كل صباح بطلاب وطالبات بعد تخرجهم قد ينسون ما حفظوه .. فأين اقسام اللغة العربية من نشاطات ثقافية تسهم في التغير ؟ أين هي من الخلق للخلق ؟
مصيدة المؤسسات العامة
يقول الأستاذ والدكتور فالح بن شبيب العجمي - أستاذ اللغويات في كلية الآداب بجامعة الملك سعود - « أقسام اللغة العربية تسهم في الحراك الثقافي، لكن من خلال مشاركات الأفراد من خلال الأندية الأدبية أو بعض المؤسسات المتصلة بالثقافة. أما لماذا لا تشارك بوصفها وحدات فيما يتعلق بتخصصات أعضاء هيئة التدريس فيها، فلأن كثيراً من القيود تفرض على الأقسام الأكاديمية بصورة عامة، وما يتصل بالثقافة وموضوعاتها، بالرغم من تجاوز العصر لمرحلة الأذونات، وربط الفاعليات بالنشاطات الأكاديمية.
والشيء نفسه ربما يصدق على المؤسسات العامة الأخرى، التي تحتاج إلى تعاون من بعض الأقسام الأكاديمية، حيث تمر الإجراءات فيها بالمخاطبات صعوداً إلى رأس الهرم في المؤسسة المحتاجة إلى المشورة، ثم مخاطبة رأس الهرم في الجامعة المطلوب منها الخدمة، ثم نزولاً حتى تصل إلى القسم المقصود، وأحياناً تضل طريقها إلى أقسام أخرى، أو يكون وقت المشورة قد انتهى، أو أصبح ضيقاً لا يتيح لعضو هيئة التدريس أو مجموعة أعضاء هيئة التدريس تناول الموضوع بما يكفي من التشخيص وإبداء ما يحتاجه الموضوع من آراء.
إن موضوع ضعف الأعمال المؤسسية في نشاطات أقسام اللغة العربية في جانب منها تتأثر بكثرة الاشتراطات عند طلب إدراج أي من النشاطات المقترحة من جهة، وبعدم تعاون كثير من المؤسسات أو الأفراد المعنيين بأي من تلك المجالات من خارج الجامعة من جهة أخرى. فهناك نشاطات متميزة طالبت بها بعض أقسام اللغة العربية من بعض الجامعات السعودية، لكن الجهات المعنية تتوانى عن التجاوب مع تلك الاقتراحات استهانة بقيمتها، أو رغبة من المسؤولين فيها في إعطاء ذوي الحظوة عندهم الصلاحيات في تصميم النشاطات، وصرف التمويل اللازم لها.
فللأسف غالباً لا يعطى الموضوع المقترح ومضمونه الأهمية بقدر ما يعطى للشخص المذيلة باسمه ورقة الاقتراح؛ لذلك شاعت نصائح عملية في أوساط الأكاديميين بالبحث دائماً عن الاسم المحبب عند المسؤولين الذين بيدهم القرار، ليستخدمهم أصحاب المصالح في تمرير اقتراحاتهم، والحصول على الموافقة عليها.
تبني المواهب
ويقول الدكتور ماجد الحمد – عميد معهد اللغويات العربية بجامعة الملك سعود - أختلف تماما مع الفكرة السائدة التي تقول بأن أقسام اللغة العربية في الجامعات تخرج موهوبين في الأدب شعره ونثره. إن نظرة سريعة في الأسماء الأدبية التي تألقت في سماء الشعر والرواية وغيرها من الفنون الأدبية تعطينا مؤشرا قويا على أن دراسة اللغة العربية في الأقسام الأكاديمية في الجامعات ربما تكون سببا في ضمور الموهبة الأدبية لدى كثير ممن كانوا يمتلكونها، والتحقوا بأقسام اللغة العربية في الجامعات لتنميتها فإذا بهم يفاجأون بأنها ضمرت وربما انتهت. وربما جاءت المقولة الشهيرة «الناقد مبدع فاشل» من هنا، فمعظم هؤلاء بدل أن يستمروا في طريق الإبداع الأدبي شعرا ونثرا يتحولون إلى نقاد حرفيين «يتسلطون» إذا صح التعبير على إنتاج المبدعين نقدا وتمحيصا وتقويما (مع الأخذ في الحسبان التحولات الكبيرة للنقد الحديث في مدارسه ومناهجه وليس هذا وقت التفصيل فيه).
إن العلم بشروطه وضوابطه المنهجية يختلف اختلافا كبيرا عن الموهبة والإبداع، فمخطئ من يظن أن الناقد العالم سيكون أكثر إلماما ومعرفة بالإبداع الأدبي من المبدع الذي ينتج الشعر والرواية والقصة والمسرحية ... إلخ.
ولعل أكبر مثال على ذلك أن كثيرا من الشعراء والروائيين في العصر الحديث ليس لهم علاقة بأقسام اللغة العربية من حيث الدراسة الأكاديمية: فعمر أبو ريشة كيميائي، وإبراهيم ناجي طبيب، وعلي محمود طه مهندس، وغازي القصيبي سياسي إداري، ونجيب محفوظ فيلسوف، ويوسف إدريس طبيب. وهؤلاء مجرد أمثلة، في حين يعجز المتابع عن تذكر مبدع متميز كانت دراسته الأكاديمية في اللغة العربية.
من هنا .. نحن لا نحتاج في اكتشاف المواهب الأدبية وتنميتها ورعايتها إلى أكاديميين، بل نحتاج إلى أدباء مبدعين مميزين يشرفون على تلك المواهب وربما يوجهونها ويرعونها. ولا شك أن الأديب الناشئ الموهوب يحتاج إلى التواصل مع الأدباء أمثاله لتقوى موهبته. فهؤلاء الفرزدق وجرير والأخطل وما كان بينهم من تهاج ألهب مواهبهم إبداعا وتألقا. والبحتري أستاذه أبو تمام وفيه يقول مقولته الشهيرة «جيده خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه»، ولعل التواصل بين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم غني عن التذكير به. بل إن مدرسة أبولو في العصر الحديث جعلت من أحمد شوقي رئيسا فخريا لها في البداية عندما أنشأها أحمد زكي أبو شادي وزملاؤه.
إن دور اكتشاف المواهب وتنمية الحراك الثقافي الأدبي هو مهمة الأدباء المبدعين والمثقفين المهتمين بالأدب وليس الأكاديميين، فالأكاديميون موقعهم في الجامعات، والمبدعون موقعهم في الأندية الأدبية والثقافية، ولعل اختلال هذه المعادلة ما جعلنا نشاهد نقصا واضحا في تبني المواهب والمبدعين الناشئين في المجتمع، بل ربما كان سببا في تنفير كثير منهم مما جعلهم يهجون الأدب ويتجهون اتجاهات أخرى.
تحجيم اللغة
وقال الدكتور عبدالرحمن العناد - أستاذ النقد والإعلام والمهتم بالشأن العام وحقوق الانسان - بأن اللغة العربية لم تحظَ باهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية والعلمية فحتى اليوم العالمي الذي أوجدته « اليونسكو « للاحتفال باللغة وتم الاحتفال به العام الماضي خطوة غابت عنا ونحن أولى بها لأن اللغة العربية لغة القرآن .. إلا أنني أميل إلى أن تكرس أقسام اللغة العربية اهتمامها إلى الجهد الأكاديمي والبحث أكثر من اهتمامها بالنشاطات والفعاليات الثقافية ، فالقائمون على مثل هذه الأقسام هم جزء من المثقفين إلا أن مهمة اقسام اللغة العربية في حقيقتها وصنعتها الأساسية إنما في تدريس اللغة العربية كمنهج جامعي وتخريج الطلاب في هذا التخصص إلا أن ذلك لا يتنافى مع ضرورة أن تولي الأندية الأدبية وبعض مؤسسات الثقافة جانب من الاهتمام للغة العربية .
وفي المقابل من كل ذلك نرجو أن يكون للمختصين باللغة العربية دور كبير في مسائل اللغة العربية بدل اهتمامهم الذي أصبح ملاحظ كنقاد في الأدب فما يحدث أن الثقافة أصبحت مرادفة لكلمة النقد الأدبي وهذا يعد تقزيماً للثقافة وتحجيماً لها مع حصرها في زوايا ضيقة في حين أنها من الممكن أن يكون لها دور أكبر ، فبعض الأكاديميين في أقسام اللغة تحولوا إلى شعراء وأدباء أكثر من كونهم علماء وأساتذة في تلك الأقسام .
داخل الصمت
ويرى الدكتور عالي القرشي – أستاذ النقد والادب بجامعة الطائف - بأن الأمر لا يتعلق فقط بأقسام اللغة العربية بل هو ظاهرة في أغلب أقسام جامعاتنا، هذه الأقسام صماء تحولت إلى آلات تنفذ ما أملي عليها من قبل تيارات كانت تسيطر على مفاصل التعليم بما فيها التعليم الجامعي ، وغابت منذ بدء الإرهاب حتى الآن ما يتطلبه الحال من ضرورة تنمية المبادئ والمثل وتعزيز القيم التي تنهي عن قتل النفس الإنسانية ، وتطالب بعصمتها ، فلم تعمل أية مراجعة لمناهجها ولا مناشطها بل ظلت في صمتها حتى الآن إن لم أقل تتفرج على من يقتلون ومن تقبض عليهم العدالة وكأن من كان منهم من طلابهم ليسوا منها .
السعودية توداي
|