اللغة العربية تاريخ حافل، وتألق متجدد

د. محمد امهاوش

    العربية لسان وهوية، والعناية بها ممتدة أفقيا وعموديا.

 والناظر في تاريخها الحافل يفخر لما يجد من اهتمام بها دراسة وتدريسا في المجالات المختلفة.
 ولذلك فإن أهل زماننا لا يملكون، وقد عرفوا من حقائقها ما عرفوا، إلا أن يضاعفوا الجهد  تعريفا بها، ودفاعا عنها، وتجديدا لأطرها وآلياتها بما يبقيها متألقة على الدوام، ويحببها إلى أجيال فترت هممهم، وضاعت بين اللغات ألسنتهم وبين الثقافات هوياتهم.
  أيام العربية تاريخ حافل بالأمجاد التليدة والإنجازات المجيدة. أيام لا كالأيام. تألقت في بعضها ما شاء الله لها أن تتألق، وخبا شأن أهلها في الشرق والغرب حتى كاد يأوي إلى كهف سحيق، ثم ما لبثت أن استعادت قوتها وأريجها الذي يمتد بعيدا تتلقاه القلوب فترتاح له، والأفئدة فتنتج ما يؤسس التأسيس العلمي، ويبني الشخصية المعرفية والمهارية على مدى الزمن الإنساني.
  تذكرت هذا وغير هذا من أمر هذه العربية المتألقة دوما رغم ضجيج الزحام وأوحال الرغام، واستعرت شيئا من نظرات أصحاب النظارات العلمية، وغايات السياسات التربوية العامة، وقرارات الهيئات اللغوية في المشرق والمغرب، فإذا اللغة العربية التي قالت بلسان المقال على مدى الزمن العربي، تقول بلسان الحال ما يبعث على النظر لذي نظر سليم وعقل سديد: 
   بداياتي ممتدة في أعماق الزمن التليد إلهاما ممن خلق فسوى، واصطلاحا ممن نطق من أهل اللسان الفصيح فصاغ واختار وأنتج.
  تألقي بالغ عنان السماء على مدى الأزمنة الذهبية؛ أزمنة أذكرها فيمتزج عندي الزهو والأسف معا.
 إسهامي المشهود في القريض والخطابة وغيرهما من فنون القول، لا تخطئه العين بله الأذن المرهفة للسماع.
 أنشد بلساني الشاعر المفلق فكانت الأشعار التي تحلت بجواهرها الدواوين.
علا بصوتي صوت الخطيب المفوه فكانت الدرر التي عمت المجالس والمحافل صولات وجولات.
حبر بجواهري الكاتب النحرير فكانت الأقوال والأمثال والحكم التي سارت بها الركبان وتجاوبت بها حناجر بني الإنسان. 
 نشوتي التي ما بعدها نشوة قائمة متجددة بما خصني به الله تعالى من عظيم الاصطفاء لحمل كتابه، وأداء رسالته، ومخاطبة عباده، فكان مني الأداء، ومن جيل الأخيار البلاغ، حتى كان ما كان من أمر دين الله امتدادا وعمقا.
لا فرق عندي بين عربي وعجمي، وقد اقترن اسمي على مدى الزمن بأسماء من كل حدب وصوب، وألوان من كل الأجناس والأقطار.
 لساني محفوظ، ولسان القوم مصون؛ وفي البلاغ المبين يتنافس المتنافسون. 
فلا عجب أن يعنى قومي غاية العناية بأصواتي ومعجمي وبنياتي وأساليبي... ولا عجب أن يكون منهم طلبة نبهاء وعلماء نجباء. 
 والتاريخ شاهد على نبل من غضب الغضبة المضرية حين انتهكت حرماتي؛ حينا لحنا، وحينا  إقصاء وازدراء. أرادوها حربا علي بحجج واهية، فانبرى لهم بالحجج الدامغة قوم عرفوا قدري، وخبروا هويتي؛ فكان بينهم ما كان مما أذكره فأزداد اطمئنانا فوق اطمئناني، وزهوا بأهلي فوق زهوي.
 وأنا في كل المواقف ثابتة الأركان مهذبة الأخلاق، لا أدعي ولا أعتدي.
 سخر الله من شتى الأجناس والأصقاع والألسنة من هام بي حبا صاغه نظما ونثرا، علما وفنا. 
   وأما امتدادي في المجالات المعرفية فلا يكاد يحد؛ نقلت المعارف والعلوم، وطورت المهارات والصنائع، وثبت القيم والمواقف حتى خاض في العوالم الممكنة من خاض، وتمكن من تمكن. 
واليوم وقد دار الزمان دورة بعد دورات، واستحال البعيد قريبا في قرية المعرفة الصغيرة، يأبى بعض من ولى وجهه وجهة غير وجهتي إلا إنكار حيويتي التليدة وآلياتي المتجددة، وقد نسي أو تناسى أن التليد لا يثقلني بل يقويني، وأن الجديد لا يخيفني بل يحملني على مزيد من الإبداع. 
   ولأهلي في الشرق والغرب أقول بلسان الحال والمقال على الدوام:
  أنا منكم لا غنى لي عنكم، وأنا معكم حتى آخر يوم مني ومنكم، وأنا بكم؛ أقوى بقوتكم، وقد أضعف لضعفكم إلى حين، يسكنني أمل عريض في غد حافل بأيدي أهل العربية ممن شغفت بحبهم، يدرسون علومي فيؤصلون ويطورون، ويبحثون في متوني فيشرحون ويهذبون، ويتداولون أخباري فيروون وينقحون، ويشتقون من أبنيتي فيصوغون للصنائع والعلوم والمجالات المختلفة ما يروق.
ألا إن الأمل فينا قائم وبالعمل مقيم، والبلاغ مبين وباللسان رصين.
                          ولكم يا أهل العربية في كل يوم ذكر حسن.