هل للغة أثر على الإبداع؟ - 1

د. محمد الخالدي

 سَرَت  لوثَةُ  الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى

لُعَابُ  الأَفاعي  في  مَسيلِ  فُراتِ

فَجاءَت  كَثَوبٍ  ضَمَّ  سَبعينَ  رُقعَةً

 مُشَكَّلَةَ      الأَلوانِ       مُختَلِفاتِ

«حافظ إبراهيم»

كانت وما زالت اللغة هي أعظم اختراع تولدت عنه الإنسانية. وإليها تُنسب كثير من اختراعات الفكر الإنساني. وقد عُرِّفت اللغة بأنها رموز التخاطب والتواصل في المجتمع. وقد تعددت الآراء حول علاقة الفكر باللغة. فالمدرسة الأفلاطونية ترى أنهما منفصلان، فالأول: وعاء، والثاني: محتوى، ولا رابط بينهما. بينما ترى مدرسة أخرى بأن الفكر يسبق اللغة، حيث إنه لا يمكن أن يتكلم الإنسان قبل أن تكون لديه فكرة سابقة. وهناك رأي ثالث يرى أن اللغة والفكر متلازمان، وأن اللغة هي ليست المفردات والكلمات فحسب ولكنها تشمل المعاني والمفاهيم، وليس هناك فكر بدون لغة، ولا لغة بدون فكر. وقد عبر عن هذه العلاقة هاملتون بقوله: "إن المعاني شبيهة بشرر النار لا تومض إلا لتغيب فلا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ."

إذن، اللغة والابتكار متلازمان ومتكاملان. فاللغة تضع معانيَ لأفكارنا، سواء كان ذلك تحدثا، أو كتابة، أو رمزا. فنحن ننقل الأفكار إلى الآخرين عن طريق اللغة، وهو أمر ضروري لتحويل الفكرة إلى منتج. إنه من المستحيل تقريبا أن يكون لدينا ابتكار إذا لم تكن لدينا لغة. فمياه الأنهار (الفكر) التي تبعث الحياة في الأرض ما كان لها أن تعبر الوديان والسهول لتصل إلى الناس لولا مجاري الأنهار (اللغة) التى تقود مسيرتها لينتفع بها الخلق.

يقول وليام هاناس في كتابه "الكتابة على الجدران" (2013) إن هناك هوة فاصلة في مجال الإبداع بين شعوب أقصى آسيا والشعوب الغربية. ويؤكد الكاتب على نبوغ الإنسان في أقصى شرق آسيا، وقدرة الناس هناك على تحقيق نتائج مماثلة لأقرانهم في الغرب. وقد تبين ذلك من خلال الاختبارات القياسية في الرياضيات والمواد العلمية الأخرى، واحتلالهم مراكز قيادية في الأعمال والابتكار عندما يتعلمون اللغة الإنجليزية ويعملون في دول الغرب.

وبرغم ذلك، لا توجد ابتكارات جذرية يشار إليها في ذلك الجزء من العالم، بالرغم من بنائهم التعليمي المتميز وخاصة في مادة الرياضيات. وقد عزا الكاتب ذلك إلى أن طبيعة اللغات في هذه المنطقة (كالصينية، والكورية، واليابانية) تعتمد على الرسوم وليس الحروف (مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية). لذلك فهي أقل تجريدا من لغات الحروف. 

واللغة كمحتوى للكلام والفكر هي إنموذج تجريدي، فنحن نمازج ألفاظها وتعابيرها لإيصال الفكرة كما يجب. ولكن يبدو أن نسبة التجريد تختلف من لغة إلى أخرى. فاللغات في أقصى آسيا هي الأقل تجريدا، حيث إنها تعتمد على الأشكال لا الحروف. ومن هنا يشير بعض الباحثين إلى ضعف النمذجة في هذه اللغات، وبالتالي فإنها تعجز عن الوصول بأهلها إلى الابتكار والإبداع الذي ينبثق من التفكير المبني على التجريد.

وبما أن الحياة فيها جانب معنوي كبير غير محسوس أو ملموس، وهو الأعمق والأدق. فالأفكار والرؤى والتخيلات والمفاهيم أشياء غير محسوسة، ولا يمكن نمذجتها إلا بطرق تجريدية. فاللغة بمفرداتها تمثل نماذج للتخاطب والتفاهم بين البشر. وكلما كانت اللغة تجريدية أكثر (شريطة ألا تفقد تمثيلها للواقع)؛ كانت قدرتها على الخلق والإبداع أكبر.

كان هناك جدال امتد لعقد من الزمن حول ما إذا كانت اللغة الصينية (مندرين) ستحل مكان اللغة الإنجليزية كلغة عالمية، نتيجة للنمو الاقتصادي الهائل الذي تشهده الصين. ولكن الباحث قيصر هيدالغو وفريقه من جامعة إم آي تي رأوا بنهاية العام الماضي (2014) من خلال بحثهم، أن اللغة الإنجليزية ستظل هي اللغة الأقوى تأثيرا في العالم.

فاللغة الإنجليزية أصبحت أكبر محور للمعلومات، إذ يتجاوز محتواها الرقمي على الإنترنيت 50% من المحتوى العالمي. وهي تعمل اليوم كلغة حيادية وحلقة وصل بين اللغات الأخرى، فأصبحت بذلك أهم لغة تربط العالم ببعضه. ولذلك ستبقى - في نظر مجموعة البحث - اللغة الإنجليزية هي لغة الابتكار.

يضاف إلى ذلك، أن أهم لغات البرمجة في الحاسب مبنية على اللغة الإنجليزية ذات الستة والعشرين حرفا، والتي صُمم لوح المفاتيح على أساسها، في حين يستحيل ضم اللغة الصينية التي تربو على 2000 حرف (رسم)، في لوح مفاتيح. 

وَمِمَّا يزيد اللغة الإنجليزية قوة وانتشارا هو نزوع الأشخاص والمنظمات التي ترغب في الانتشار عالميا والدخول إلى الأسواق العالمية، إلى الاستثمار في اللغة الإنجليزية، وإخراج منتجاتها وإسهاماتها باللغة الإنجليزية. وتسعى كثير من المنظمات في العالم إلى تحسين تواصلها مع الآخرين من خلال تحسين مستوى فهم موظفيها للغة الإنجليزية، إذ يقدر عدد الذين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية في العالم بنحو مليار ونصف المليار شخص.

أين موقع العرب واللغة العربية من الابتكار؟ هذا ما سيتم تناوله في الحلقة القادمة.
 

اليوم