د. توفيق قريرة
يعتقد بعض المثقفين المنتصرين للعربية والمدافعين عنها أنّ عاميّات العربية، أي اللهجات التي نتكلمها يوميا في الوطن العربي، هي أخطر على العربية الفصحى من أيّ لغات أجنبية. من الناحية اللسانية ـ أي العلمية ـ لا توجد لغة تمثّل خطرا على أخرى، وفي عمر اللغات لم تقتل لغةٌ لغَةً أخرى بسابق الإضمار والترصّد، كما يقول أهل القانون، ولا حتّى قتلتها بالصدفة الحادثة أو بالخيانة العظمى.
اللغات جُعلت لتتعايش وتتعامل لا لتتصارع ويقصي الواحد منها الثاني. قاتل اللغة الأكبر هو عدم دورانها على الألسن وضيق أفق استعمالها في المحادثات والمؤسّسات السياسية والدينية وحديثا الإعلامية. والحقيقة أنّ العربية بعيدة كل البعد من هذا الداء فهي تستخدم منذ قرون في مؤسّسات السياسة مهما تنوّعت وهي حاضرة في المنابر الدينية على اختلاف أنواعها ومذاهبها جبرا، لأنّ النصّ القرآني نزل بها وهي مادة كتبت بها الثقافة العربية بدءا من الأخبار والسير وصولا إلى الفلسفة والمنطق مرورا بعلم الكلام والفقه والعلوم الدينية والعلوم الطبيعية وغيرها من الفنون؛ يضاف إلى ذلك أنّ العربية لم تكن فقط أداة تكتب بها العلوم، بل كانت إلى ذلك موضوعا للدراسة في ذاتها، فتأسّس حولها علم النحو الذي يعدّ من أهمّ علوم اللسان القديمة والبلاغة والنقد وعلوم أخرى نظرت إلى العربية على أنّها موضوع دراسة في ذاتها ولذاتها. بهذه العلوم اللسانية أمكن توفير مداخل تعليمية لمن أراد أن يتعلّم العربية وساهم النحاة والبلاغيون بأنفسهم في تبسيطها، إذ كان بعض البارزين منهم قد انتدب ليكون معلما لأبناء الساسة والرؤساء أصول العربية وحتى بعضا من علومها الأخرى.
غير أنّ من أبرز ما حمى العربية في تاريخها الطويل وما يزال يحميها العاميات، أي اللهجات التي ننجزها في أنشطتنا يوميّا. إنّ جملة كهذه تبدو مكدّرة لمن رأى في اللهجة خطرا على اللغة العربية، لذلك سندخل إلى الموضوع من عينات لغوية تنتمي إلى العامية نرى كيف أنّ العلاقة بين العاميات والعربية علاقة تفاعل، بل إنّ التحريفات التي هي في نظر البعض أكبر آفة تهدّد العربية لها بعد جمالي لا يقتل العربية بل يخلق لها زوايا نظر أخرى ونحن لا نعني ههنا اللحن، بل نعني ضربا من التحريفات الطريفة لحادثة هنا وهناك على ألسنة عامة الناس الذين لا يعرفون العربية ولا يتفنونها كتابة ولا مشافهة. وقبل ذلك ينبغي أن نذكّر أنّ العرب لم يعرفوا في تاريخهم لغة واحدة، إذ كانت لهجات العرب في الجزيرة العربية كثيرة قبل أن تظهر هذه «اللغة المشتركة « أو»اللغة الأدبية» بين القرنين الرابع والخامس الميلاديّين، ويغلب الظن أنّها كانت لغة متداولة بين الشعراء قبل أن تعمّم بعد مجيء الإسلام بواسطة القرآن أوّلا، ثمّ بالاستخدام في المؤسسات الخلافية وفي المراسلات، بالإضافة إلى المنابر. وحتى بعض ظهور العربية المشتركة التي نسميها الفصحى بقيت اللهجات العربية (التي كانت تسمّى لغات حيّة) مستخدمة ومن يطّلعْ على كتاب سيبويه يجدْ أنّه يتحدّث عن عشرات من هذه اللهجات ويستشهد بها، من دون أن يعتبرها ثقلا على العربية بل كانت أهمّ الروافد التي غذّتها.
وفي أيّامنا فإنّ البشر العادييّن الذين لا يتكلمون الفصحى يفهمونها عندما يشاهدون نشرات الأخبار أو يسمعون الأئمّة يخطبون بها، بل إنّهم قد يسعون إلى أن يستعملوها بطريقتهم. هذا الاستعمال لم يكن ليرضي كثيرا من حَرَسَة العربية لأنّهم يعدّونه تحريفا، ويخشون أن يدخل العربية وهي خشية مبالغ فيها لأنّ كلّ لغة، ومن وجهة النظر اللسانية، يمكن أن تأخذ من لغات أخرى وتعطيها وهذا يبرز أساسا في المعجم، فالعربية القديمة أخذت كثيرا من مفرداتها من لغات غابرة كالفنيقية والآرامية وأخذت من الفارسية وتأخذ من الفرنسية والإنكليزية مسميات التكنولوجيا، وهي أيضا تعطي لغات أخرى عباراتها ولنا أن نجد آثارها في الإنكليزية والإسبانية وغيرها. اللغات حياتها في التفاعل في الأخذ والاقتراض وفي المنح والوهب؛ وعَجَبي من العرب يتفاخرون كيف أنّ عبارات من لغتهم موجودة في اللغات الأجنبية، ولكنهم يشنون الحروب على كل من يدعو إلى الاقتراض المعجمي من لغات أخرى أو من لم يقاوم هذا الاقتراض.
العربية في لغة العامّة بديعة.. بل حتى استعاريّة يتصرّفون فيها بما يشتهون هم فيخرجون الكلام بعد تحريفه تخريجات بديعة.. في تونس مثلا قد تسمع بعض بسطاء الناس يترجمون قولهم في لغة القضاء (عدم سماع الدعوى) بـ (قلّة سماع الدعوى) .. هل يعنون أنّ حكم القاضي بـ»قلّة سماع الدّعوى» أنّ التهمة ثابتة ولكنّه قُلّل من فداحتها؟ أم هل أنّ القلّة تحمل عندهم على العدم؟ وهذا موجود في كلامهم فالقِلّيل في اللهجة التونسية الريفيّة يعني الفقير المعدم .. لكن لمَ يلطّفون من هول العدم ليجعلوه قليلا.. كأنّه تلطيف من شدّة الحياة ونظر متفائل ليس موجودا عند أصحاب العدم..
وحين سمع بعض الناس بـ’الأنانيّة’ أعجبته وظنّها شيئا جميلا فكرّرها وتباهى بها حتى نسبها إلى نفسه فافتخر وقال ما ترجمته: «الأنانية التي عندي لن تجدها عند أحد». لقد فهم الأنانية على أنّها تضخيم للأنا الجميلة وتستعمل في العربية المتداولة تضخيما للأنا القبيحة؛ وتضخيم أنا الإنسان يكون جميلا من زاوية نظر الذات وقبيحا من زاوية نظر الآخر أو الجماعة التي تريد أن تموت كل ذات أمام جمعها. ليس في الأمر تحريف إذن وإنّما فيه تعبير عن وجهة نظر من يرى في الذاتية صلفا وخيلاء، حتى إن كان الفقر يزري بها. وفي أمثال التونسيّين (الفقر والفرعنة) فالأنانية ضرب من فرعنة الفقراء ولمَ لا يتفرعن كلّ شخص بينه وبين نفسه أو حتى عندما يباهي الناس بأبسط ما لديه ويزهو بها على مرأى منهم ومسمع. ومن نوادر ما سمعته تحريف للعبارة التي نستعملها في التوكيد (بأتمّ معنى الكلمة) كأن نقول «وهذا ظلم بأتمّ معنى الكلمة» سمعت شيخا يقول بالعامية التونسية «هذا ظلم بأتمّ كلمة المعنى».. حين راجعت تحريفه انتبهت إلى أنّ الكلمة الصحيحة فيها شيء من الهشاشة في البناء، أو كما يقول الفلاسفة العرب فيها شيء من التسامح، يعنون التهاون في التأسيس المتين للمعنى الدقيق: فهل في معنى الكلمة شيء تام وشيء ناقص؟ لا بالطبع وهذا من بديهات الأمور عند الباحثين في الدلالة وعلمائها على اختلاف مشاربهم وأزمنتهم ؛ فالمعنى في الكلمة إمّا أن يكون وإمّا ألا يكون أو بلغة القدامى في حضارتنا : هو وجوديّ أو عدميّ وليس شيء في معنى الكلمة تامّا والآخر أقلّ تماما. لكن في التحريف (بأتمّ كلمة المعنى) شيء أكثر دقّة إذ يمكن لكلمة (حديثنا هنا عن كلمة المعنى) أن تقال تامة ويمكن أن تقال ناقصة.. صحيح أنّ الشيخ لم يقصد بتحريفه هذه الدقة، بل قصد المحاكاة بل في قوله ضربة حظّ وعثرة في عثرة أنتجت صوابا.. ومن جهة أخرى فإنّ التسليم بأنّ الشيخ أخطأ، إذ قلب ترتيب نظام الكلمات ليس جوابا شافيا لأنّه يقف عند بالظواهر. ذلك أنّ البحث في التحريف ينبغي أن يبنى على أسئلة أعمق أهمّها لمَ حرّف من حرّف؟ فالتحريف قد تكون وراءه طريقة مختلفة في بناء الوضعية الموصوفة أي طريقة في الإدراك مختلفة.
في كلام الشيخ قلب لترتيب الكلام وقلب ترتيب الكلام ممكن في لغة العامة لأنّ تركيزهم على فحوى الرسالة في الغالب. وهم أصحاب المبدأ الذي يقول إنّ (موسى الحاج) هو(الحاج موسى) لا فرق بينهما في المضمون، فكلاهما يعين شخصا واحدا (هو مبدأ لا تقره اللسانيات) فما جعل الشيخ يقلب نظام الكلام هو اعتقاد منه أنّ الأمرين واحد. وقد يكون قلبه للترتيب تركيزا على شيء بعينه جعله يقدمه عبارة كلمة ويجعلها مدارا ونواة للمركب: كلمة المعنى تعني أنّ للمعنى كلمة تختصره فالظلم معنى نشعر به وتختصره كلمة ظلم، وهذا الشعور بمعنى الكلمة يكون ناقصا أو تامّا أي أنّ الظلم يكون قليلا أو كثيرا تاما إذا كان كثيرا كانت تلك حالة أتمّ كلمة معنى الظلم. قد لا يعني الشيخ كلّ هذا لكنّ كلامه يمكن أن يوحي لي أنا الذي أريد أن أحفر في خبايا الكلام بهذا وبغيره ..
وإذا تكلم المحرّفون من هذا النوع عادة ما يحمل كلامهم على أنّه فوضى كلام والحق أنّ داخل كلّ فوضى منطقا يشدها ودراسة منطقها قد تحيّر العقول التي تعوّدت على الإنجاز اللغوي «السليم».
إنّ العثرة قد تنتج صوابا ما بمنطق معيّن قد يكون غير الذي نعرفه .. كذلك الأمر في كثير من الأحوال في حياتنا.. وليس حديثنا قياسا.. بل سماعٌ.
القدس العربي