الجزائر بين إلزامية التعريب فرضا... وضرورة استعادة الموروث اللغوي وجوبا

أ. محمد دامو

 كثيرا ما يطرح موضوع استقلال الجزائر عن فرنسا، فترى الجزائريين يبادرون فرادى ومجموعين للتأكيد على “استعادة” استقلال بلادهم، وليس مجرد استقلالها عن الفرنسي المحتل. لكنهم. ولكنهم، عند طرح موضوع اللغة العربية في الجزائر، لا يجدون حرجا في الحديث عن “عملية التعريب” التي انطلقت غداة استعادة الاستقلال الوطني.

وكأنهم بذلك يوافقون القول إن دولة الجزائر الحديثة إنما استعيدت من قبضة الاحتلال، ثمّ عمدت إلى استيراد لغة غريبة عن تاريخ شعبها، لتحلّ محل لغة المستعمر.
بذلك أصبح لوقع لفظة “التعريب” في الجزائر نفس وقع مصطلح “التتريك” في المشرق، حتى ليقال، إن “التتريك” المنبوذ توغَل في حياة المجتمع المشرقي، بقدر ما فشل “التعريب” في اقتحام حياة الناس في الجزائر، ثم أن عهد التتريك انتهى بانتهاء العهد التركي. في حين، توسّع نفوذ اللغة الفرنسية في الجزائر طردا مع انتهاء زمن الاستعمار الفرنسي، وقد يبدو هذا القول من قبيل المبالغة، ولعلّه نكاية مقصودة لحقائق التاريخ الذي يشهد أن اللغة العربية وعلومها، قد نمت وترعرعت في الجزائر وبقية الحواضر المغاربية تماما كما حدث وأن تطوّرت وازدهرت في حواضر المشرق.
قرار الأمم المتحدة بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية التي يجري بها العمل في هيئات الأمم المتحدة لم يصدر صدفة ولا تلقائيا، وإنما جرى التحضير له على مدى ربع قرن من خلال مبادرات متعددة قامت بها الدول العربية، وتوصيات ألحّت عليها هيئات ومنظمات دولية متعددة ومنها منظمة اليونيسكو. وعبر هذه الجهود المتعددة المتواصلة منذ العام 1954، تمكنت اللغة العربية أخيرا من الحصول على موقعها الرسمي والمشرّف إلى جانب اللغات الحية الأكثر انتشارا واستخداما في العالم، وانطلاقا من صرح أكبر هيئة دولية، في تاريخ البشرية.
في 18 ديسمبر عام 1973، صدر قرار عن هيئة الأمم المتحدة باعتبار اللغة العربية سادس لغة معتمدة رسميا من الهيئة الدولية، وفي أكتوبر عام 2012 صادقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) على توصية تقدمت بها مجموعة دول عربية بينها الجزائر باعتبار يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية، ومنذ ذلك التاريخ تحوّل 18 ديسمبر من كل عام إى يوم عالمي للغة العربية، تحتفل أرجاء واسعة من العالم بهذه المناسبة التاريخية، العزيزة على قلوب الناطقين بالعربية والباحثين المختصين بأمهات اللغات الشرقية، والمطلعين على كنوز وذخائر العربية، لغة، تاريخا، وحضارة.
وقد جرت العادة أن تقام بهذه المناسبة احتفالات فنية ومعارض أدبية، وتظاهرات ثقافية، تحتضنها القاعات والمسارح في أنحاء عديدة من العالم، تتولى إحياءها والإشراف عليها الهيئات والمؤسسات ذات العلاقة باللغة العربية، سيرورتها وتطورها، عبر مراحل التاريخ، قديمها وحديثها.
ورغم أننا لا نعرف كيف ستسير الأمور بهذه المناسبة في الجزائر، إلاّ أننا نتوقع تكفلا رسميا بالحدث، يليق بلغة الضاد التي لم تكن يوما لغة غريبة عن الجزائر وأهلها، فلهجة قريش في مكة وجوارها لم تتحوّل إلى لغة قومية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى إلا لحظة تهيأت لها الظروف الموضوعية لتكون كذلك، لحظة نزلت أول سورة في القرآن باللهجة القرشية، واختتم تنزيله بها، ثمّ انتقل كما نزل إلى أرجاء المعمورة، فكان لا بد من تأطيرها بقواعد النحو والصرف، لتقوم بمهامها كلغة عالمية تتولى حمل ونشر رسالة الإسلام، ومنها حفظ وتلاوة كلام اللّه.
وقد بدأت عملية تأطير وتنظيم لهجة قريش باعتبارها لغة القرآن، انطلاقا من الكوفة، وليس من المدينة المنورة ولا مكة المكرمة، وتوالت فصولا انطلاقا من مدارس: الكوفة، والبصرة، وبغداد، فالمدرسة المصرية تزامنا مع مثيلتها في منطقة شمال إفريقيا العامرة بحواضرها الزاهرة، بما فيها حواضر الأندلس التي منحت إسمها للمدرسة المغاربية، فقيل المدرسة الأندلسية. والملفت في العملية برمتها أن الذين تولوا مهمة التأطير الفني والعلمي الاكاديمي أصحاب المدارس النحوية تلك، كانوا في أغلبيتهم من الأقوام غير العربية، لكنهم كانوا مثل بقية المؤمنين بالدين الحنيف، يرون ضرورة تنزيه لغته من اللغو ومطبات اللحن وأخطاء التفسير، في غياب تأصيل قواعد النحو والتصريف على حد سواء، وبذلك انطلقت العملية لأول مرة في القرن الأول الهجري على يدي أبي الأسود الدؤلي، واستمرت بشكل أكثر عمقا ودقة على أيدي علماء أجلاء من أمثال: الفراهيدي، سيبويه، نفطويه، الكسائي، الفارسي، وغيرهم كثير، وكان آخرهم العلامة محمد بن عبد الله بن مالك الجياني، نسبة إلى جيان شمال الأندلس، والمعروف بإعماله الخالدة في مجال أحكام اللغة العربية وقواعدها، وأبرزها كتاب “الكافية الشافية” الشهير، وموسوعة “ألفية إبن مالك” الأشهر على الإطلاق.
ولعلّه من المفيد هنا أن نشير إلى تبادل التأثير بين المدرسة البغدادية التي شمل انتشارها بلاد الشام كاملة، وبين المدرسة الأندلسية التي استقرت وتطورت في الحواضر المغاربية، في حين غاب هذا التأثير بين المدرستين البغدادية والأندلسية من جهة والمدرسة المصرية من الجهة الأخرى، وهي التي وجدت مجال نفوذها وانتشارها، في اتجاه اليمن والجزيرة العربية عامة. وبقي الاختلاف بين المدرسة الأندلسية والمدرسة المصرية قائما حتى يومنا هذا، بقدر ما تواصل التقارب بين المدرسة الأندلسية المغاربية والمدرسة البغدادية، العراقية ـ الشامية، حتى ليكاد ينعدم في وقتنا الحاضر. على هذا، بات لزاما على الذين تولّوا مسؤولية “استيراد” اللغة العربية بالشكل المتسرع الذي تمت به في إطار “عملية التعريب” في الجزائر أن يصلحوا ما كشفه الزمن من عيوبها، أو يخلوا مواقعهم لمن يتقن فعل الإصلاح ويحسن تسيير عملية “استعادة اللغة العربية” إلى الجزائر، بهذا يأخذ الانسجام مع التاريخ والمنطق موقعه الطبيعي في نسق العملية برمتها، والتي كانت ستجد طريقها إلى الواقع العملي والتطبيقي في المشهد الجزائري من دون تعقيد أو أشكال لو جرى التقيّد بأحكام التاريخ والمنطق تلك. والدلائل تشير إلى أن الحال ليست من المحال، إذا تمت مراجعة نقدية موضوعية للعملية التعريبية، ومحو آثارها السلبية تزامنا مع الشروع في عملية استعادة اللغة العربية لمعقلها الجزائري، باعتبارها حاضنة الموروث الحضاري الجزائري، وبما يسهم في استعادة ألق وحضور الجزائر في مشهد الفعل التاريخي والإنساني المتحضر.
 

الأحداث