حرروني من الهزيمة ومن العمالة

أ.د. يوسف رزقة

 تثبت علوم الحضارة وتاريخ الأمم أنه ثمة علاقة جدلية بين اللغة من ناحية، وحالة أصحابها نصرا وهزيمة من ناحية أخرى. ثمة إجماع تاريخي متعاقب أن اللغة العربية كانت لغة أولى في العالم حين كان المتحدثون بها من عرب ومسلمين سادة العالم، زمن الخلافة الراشدة، وخلافة الأمويين والعباسيين، والمماليك والأتراك. 

حين كانت الأمة تعيش حالة النصر والسيادة، كانت العربية لغة العلوم ولغة الحضارة، وتسابق على تعلمها والتأليف فيها أهل المشرق والمغرب، وربما كان جلّ من كتب وألف في علومها علماء من غير العرب، كالجرجاني، والسكاكي، والقزويني، والتفتازاني، والقالي، ...إلخ. 

وحين حلت الهزيمة السياسية ببلاد العرب والمسلمين في العصر الحديث، حلت الهزيمة أيضا بلغتهم، وصارت لغة المنتصر (كالإنجليزية والفرنسية) لغة التعليم، والتأليف، وتنافس المهزومون في تعلمها وإتقانها والرطانة بها، وتراجعت العربية إلى المقاعد الخلفية للأسف، بعد أن تراجعت منزلتها في نفوس أبنائها وجامعاتهم .

ومن مظاهر هذه الهزيمة ذات المستويات المتعددة، إصرار الجامعات العربية على تعليم العلوم باللغة الإنجليزية، لا لتفوق الإنجليزية على العربية في الحسن والثراء والجمال، بل لأن الهزيمة السياسية، والنفسية، أنتجت تخلفا عربيا في مجالات الحضارة والمدنية، وصار أصحاب العربية عالة على الأمم الأجنبية في كل شيء تقريبا، حتى في النظريات اللغوية والنقدية. 

في خضم تداعيات الهزيمة، اتجهت النخب التي تغار على العربية إلى إنشاء مجامع عربية للعناية بالعربية، ولتعريب العلوم، وتعريب مناهج التدريس في الجامعات، بعد أن ثبت بالدليل البحثي القاطع أن الأمم التي تدرس العلوم بلغتها الوطنية، كاليابان، والسويد، والنرويج، وألمانيا، حققت تقدما بكل المقاييس على من يدرسون العلوم بلغة الأجنبي. ومن هذه المقاييس قياس براءة الاختراع. حيث تبلغ نسبة براءة الاختراع بين هذه الدول ومصر مثلا ما نسبته (٢٠٠) إلى (١) براءة اختراع لصالح هذه الدول في كل مليون نسمة، في الوقت الذي لا ترقى لغاتها الوطنية إلى منزلة العربية، ومرونتها، وجمالها. 

غدًا الجمعة ١٨ ديسمبر، يحتفل العالم العربي باليوم العالمي للغة العربية، بعد أن صارت العربية لغة سادسة تكتب بها وثائق الأمم المتحدة، وكانت بداية هذه الخطوة في ديسمبر عام ٢٠١٢م، بينما اعترفت الأمم المتحدة بخمس لغات عند تأسيسها في عام ١٩٤٥م هي (الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والصينية، والروسية) ، وإذا وازنت بين التاريخين أدركت حجم الهزيمة التي تقاسيها العرب والعربية. 

حين أقام اليهود الألمان معهد (التخنيون) في حيفا، أرادوا تدريس العلوم باللغة الألمانية لأن العبرية لغة شبه ميتة، فرفض اليهود وقرروا مقاطعة التخنيون إذا لم يلتزم مؤسسوه بتدريس العلوم بالعبرية، وقد حقق اليهود المتمسكون بالعبرية ما أرادوا، وهم الآن يدرسون العلوم بالعبرية، ولا يجرؤ أحد منهم أن يتهم العبرية بالعجز، بينما يتجرأ على العربية ويتهمها بالعجز والعيّ كل من هب ودب، بلا حياء، أو خجل. 

اللغة يا سادة قضية وطن، كما القدس قضية وطن، وكما نسعى لتحرير القدس، علينا أن نعمل على تحرير اللغة، من الاستعمار، ومن الهزيمة، ومن العمالة للغات الأخرى، وهذا يبدأ بقرار سياسي سيادي يأمر الجامعات بتدريس العلوم بالعربية، ولكي يكون القرار متوازنا نقول مع وجوب إجادة المتعلم للغة أجنبية إجادة ممتازة. هذه المفاهيم باختصار واحدة من رسالة مجمع اللغة العربية بغزة، ورسالة المجمع المدرسي المنبثق عن المجمع، والذي حمل لواء العناية بالعربية في المدارس بدءا من مرحلة التعليم الأساسي، وبرعاية كريمة من وزارة التربية والتعليم بغزة.
 

فلسطين