حديث باللغة واللغة الثالثة

أ. وسام قصي

 تحتل اللغة العربية أهمية كبيرة ومكانة متميزة جداً ضمن اللغات العالمية، فهي تعدّ من أقدم اللغات السامية، وأكثر لغات المجموعة السامية متحدثينَ، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة ويتوزع متحدثوها في المنطقة المعروفة باسم الوطن العربي، فضلاً عن توزعهم على العديد من المناطق الأخرى المجاورة، وهي من بين اللغات السبع الأكثر استخدامًا في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وكذلك الأكثر انتشاراً ونمواً، فهي متفوقةً على الفرنسية والروسية،  وللغة العربية أهمية كبيرة لدى المسلمين، فهي لغة القرآن، ولا تتم الصلاة في الإسلام إلا بإتقان بعض من كلماتها. والعربية هي أيضا لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، وكتبت بها الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى، كمؤلفات دوناش بن لبرط وابن حيّوج في النحو وسعيد الفيومي وموسى بن ميمون في الفلسفة ويهوذا اللاوي في الشعر وإسحاق الفاسي(المنتسب الى مدينة فاس) في تفسير التوراة، فكان لها بالغ الأثر في اللغة والدين والأدب اليهودي.

كما تتميز العربية بقدرتها على التعريب واحتواء الألفاظ من اللغات الأخرى بشروط دقيقة معينة، ففيها خاصية الترادف، والأضداد، والمشتركات اللفظية.

 وتتميز كذلك بظاهرة المجاز، والطباق، والجناس، والمقابلة والسجع، والتشبيه، وبفنون اللفظ كالبلاغة الفصاحة وما تحويه من محسنات.

وقدّ كرس المجلس التنفيذي لليونسكو قرر في دورته 190 في تشرين الأول/أكتوبر 2012، يوم الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر للاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وجاء اختيار هذا التاريخ؛ لأنه اليوم الذي أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 اعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية لها ولكلّ المنظمات الدولية المنضوية تحتها.

 وهذا الاحتفال ينبع من ضرورة مهمة وهي: إعادة لفت الانتباه إلى أهمية اللغة العربية، والقيمة العالية التي تحظى بها على مدى التاريخ نظراً لمكانتها في الحضارة البشرية؛ ولإسهاماتها في التطور العلمي على مدى القرون، وخصوصاً أن لغتنا تتعرض بين وقت وآخر لانتهاك وإقحام مفردات دخيلة تسيء بالذائقة اللفظية والكلامية، سببها انتشار لغة (فيسبوك)، فالإنسان منّا يقاس بما ينطق به، لذلك فإننا عندما لا نتكلم بطريقة سليمة ونعرض ما بداخلنا بأسلوب سليم فإنه يتم الحكم علينا وفق ما يخرج من كلام.

وعندما أخترت كتابة هذه الموضوع لم يكن الهدف أن أمارس نوعاً من الرقابة على كلّ تلك المنشورات الفيسبوكية، أو أصادر حرية أصحابها في التعبير عن آرائهم أكثر مما هي مصادرة، أو أكمّم أفواههم، أو أكسر ما تبقى لهم من أقلام رصاص.

كلّ ما هنالك أني شعرت باستفزاز رهيب لتعابيرنا اللغوية الصحيحة وبظلم لا نظير له لما تتعرض له لغتنا العربية الفصحى على يد البعض، فمن الضروري توضيح إن العملية الأساسية في الكتابة هي التفكير، فكلّ لغة أو لهجة لها وعاؤها الفكري: فالعامية وعاء لتفكير عامي، والعربية الفصحى وعاء لتفكير عربي فصيح، والإنكليزية وعاء لتفكير إنجليزي  وعليه فإن أي اختلال في هده المعادلة سيتسبب في مهزلة وليس في كتابة.

مراقبة ونشر

والذي يطّلع على لغة (فيسبوك) قد يقول :أنها لغة غير مراقبة والنشر فيها رهن الكاتب فهو ينشر ولا أحد يصحح له، فنلاحظ أن الأخطاء اللغوية تكون عادة كثيرة وأحياناً تكون مفزعة للغة؛ لأن إشباع الكسرات ظاهرة معروفة في (فيسبوك) فـ(لكِ) لا تكتب إلا بالياء، و(شكراً) لاتكتب إلا بالنون وغيرها…، ونلاحظ أيضاً إنّ بعض المفردات العامية تكون ممتزجة بالفصيحة أحيانا أو أنها تكتب جميعاً بالعامية، وهذا يدل أنّ هناك لغة خاصة في هذه الآونة يمكن أن نسميها لغة (فيسبوك) أو “لغة مواقع التواصل الاجتماعي” فهذه المواقع تفرط باللغة، ولا تعمل على إنشاء لغة جديدة ومنضبطة ومتفقة مع أبسط قواعد اللغات.

وأنا أجد الكثير من زملائي (الصحفيين – أساتذة جامعات – أدباء- نخب) حينما يكتب موضوعاً لكي ينشره، يكتبه باللغة العامية التي لا تصلح للنشر في الصحف، كأنهم يريدون أن يوصلوا رسالة تقول: هذه لغتهم وهذه بساطة وعيهم وما شابه، وهذا غير صحيح فمن الضروري الارتقاء بالنص الذي ننشره على (فيسبوك)، لكي نرتقي بالآخرين، لا أن يندرج خطابنا لما هو أقل من مستوانا في الحديث أو في نشر المواد الصــحفية.

إنّ وسائل النشر عن طريق (فيسبوك) أصبحت مثل المرآة تعكس شخصية الفرد وتعّبر عن ثقافته، فعند قراءة صفحة المستخدم تستطيع التعرف على أفكاره ومعتقداته وكأنها صورة للعقل.

إنّ ما يثير دهشتي واستغرابي هو: إن أغلب هؤلاء من رواد مواقع التواصل الاجتماعي ينتقدون وعلى نحو متواتر، سواهم من “المثقفين” ويصفونهم بأدنى صفات السطحية، ويلصقون بهم كلّ مثالب الجهل، من خلال نصوصهم، على الرغم من إنّ كلاً منها لا يتجاوز الـثلاثة سطور، تكاد تخجل حتى من نفسها ، ترد في تعليقاتهم أو تتصدر منشوراتهم ، غالباً ما تطرح أفكارهم التي تنطلق من نظرتهم الفوقية، وامتعاضهم الدائم من حال الثقافة، ومن يمثلون مشهدها العام، نراها تنطوي ــ في الأقل ــ على خطأين نحويين ، وثلاثة إملائية ، فضلاً عن مصيبة أسلوبية .

ماذا حدث لنا ومن أين طفحت علينا هذه الوجوه، ومن أين خرجت كلّ هذه الأمراض، وكيف سمحنا لأنفسنا أن تكبر بيننا هذه المستنقعات الكلامية التي لوثت النهر الخالد، وجعلت أبناءه حديث الدنيا كلها؟! يكفى أن تجلس يوماً واحداً وتراجع ما تراه وما تسمعه على شاشات الأنترنيت و التلفزيون لكي تكتشف حجم الكارثة وما وصلنا إليه ..

لقد كان لاستخدام اللغة العامية بوفرة عن اللغة الفصحى و هجوم و دخول اللحن في اللغة، سبباً قاطعا لركاكة اللغة العربية و ضعفها مما سبق، يرشدنى القول أنّ اللغة العربية ليست بضعيفة، بلّ ركيكة و ضعيفة عند مستخدميها الجهلاء بها الذين لا يعرفون كيف يصونوها من ظلمات الضياع، بعد أن كانت مهد اللغات في ظل أسلافنا و أجدادنا العظماء. توصلت إلى النتيجة الآتية: أن ما يحدث للغة العربية الآن له علاقة وثيقة بالانحطاط الحضاري، إنه في حدّ ذاته مظهر واضح تمام الوضوح لتدهورنا في مسار التحضر أو الانحطاط.

إذ ما الذى يعنيه التحضر بالضبط؟ قد يعني أشياء كثيرة ولكن أليس من سمات التحضر، المراعاة الصارمة لبعض القواعد الجمالية أو الأخلاقية التي اتفق عليها الناس، (أو على الأقل اتفق عليها الأشخاص الأكثر رقيا وتهذيبا من الآخرين)؟

قد تكون هذه القواعد شكلية بحتة (أو قد تبدو كذلك)، ومع ذلك يصرّ هؤلاء عليها، ويعلقون أهمية بالغة على مراعاتها.

إذ ما الفرق بالضبط بين التناول “المتحضر” للطعام، والتناول “المبتذل” له؟

الاثنان يؤديان نفس الغرض (أو هكذا يبدو الأمر)، وهو ملء المعدة وإشباع حاجة ضرورية، ولكن لماذا بعض طرق تناول الطعام نراها أكثر “تحضرا” من غيرها، فتتطلب عدم الاستعجال في الأكل، و التحوّط من عدم سقوط بعضه على الثياب، مع مراعاة الآخرين الذين يتناولون الطعام معك، وقد يصر البعض على استخدام الشوكة والملعقة والسكين بدلاً من استخدام اليد المجردة، بينما قد يعدّها آخرون من قبيل “الشكليات” غير المهمة؟

إن التمسك “بالشكل” كثيراً ما يكون أمراً جوهرياً، فهو قد يضفى جمالاً على بعض أنواع السلوك، نفتقده إذا خلا السلوك منه، وقد ينطوي على ضبط للنفس فلا يبدو الإنسان كالحيوان المتوحش ، الذي لا هم له إلا إشباع حاجاته بأسرع وأسهل طريقة ممكنة.

كما أن هذا التمسك بالشكل قد يمنع الناس من الإفراط في “التحرر”، فيتصرف كلّ منهم على هواه إلى حدّ أن ينفرط العقد، وتضعف الروابط بين الناس، إذ يصبح كلّ شيء ممكناً، وكلّ طريقة في التعبير جائزة.

إن التحضر قد لا يزيد على مراعاة بعض “الأشكال” و”المراسم” و”الطقوس″ و”القواعد”، والانحطاط لابد أن يصحبه رفض التقيد بأي قاعدة، بما في ذلك قواعد التعبير عن النفس بالكلام أو الكتابة.

إنّ ركاكة اللغة العربية و ضعفها في و قتنا الحاضر أصبحت واضحة المعاني و البيان لمن يدركها ويتأملها، فاذا نظرتم إليها في وقتنا الحالي على ألسنة و في كتابات مستخدميها لأيدتم كلامي و رأيي فقد أخذت اللغة العربية تميل إلى الضعف و الركاكة بعد أن كانت ناصعة و ساطعة و قوية تنافس منافسيها في القوة.

وأرى أن انتهاك اللغة العربية لا يقلّ انتهاكًا عن انتهاك أيّة مسألة من أهم مسائل الدستور، وقد يرى البعض أنَّ هذه مسألة الانتهاك هذه مسألة شكلية، ليست من الأهمية بمكان، وهنا يكون مكمن الخطر والمصيبة الكبرى، في الوقت الذي أصبحت فيه من أهم المواد الدستورية إجماعا واتفاقاً.

فيا إخواننا : اعلموا أنَّ إهمال اللغة هو إساءة لشخصيتكم، وتراثكم، وثقافتكم، ومقومات أمتكم.
 

الزمان