اللغة العربية في يومها العالمي؟

أ. طلال قديح

 اللغة العربية أعظم اللغات وأكثرها قداسة وأرسخها جذوراً، إذ كرمها الله بسمات لا تتوافر لغيرها وخصها بمكانة فريدة تفخر بها على سائر اللغات..فهي لغة القرآن وميدان البلاغة والبيان ، تحدى بها الله الجن وبني الإنسان، فعجزوا وأقروا بفضلها الذي تباهي به في كل الأزمان.

واكبت اللغة العربية مسيرة العلوم والمعارف، وظلت تتسع لمستجداتها وتعبر عن منجزاتها بكل كفاءة واقتدار، وانبرى علماؤها ممن ملأت أسماؤهم مسامع الدنيا، وكُتبت في صفحات التاريخ بمداد من نوريظل متلألئا على مر الدهور يلهم الأجيال ويحثهم على مواصلة الاضطلاع بموروثات الآباء والأجداد والمضي بها قدما وبثقة لتحقيق الغاية والمراد والوصول إلى ذروة المجد والسؤدد.
وفي هذه المناسبة، ينبغي أن نستذكر عظمة هذه اللغة ودورها في صنع حضارة عظيمة أهدت للعالم إنجازات في كل المجالات ، وتفوقا في العلوم والاختراعات، في زمن كان العالم فيه غارقا في الجهل والظلام ويئن من بطش الظلم والاستبداد.
أهدت اللغة العريية للعالم علماء أجلاء كابن سينا وابن رشد والخوارزمي وابن خلدون، ممن يشهد لهم العالم كله بطول الباع في النهضة العلمية الحديثة التي استقاها الغرب من أفكارهم واكتشافاتهم ونظرياتهم ، وهو أمر لم ينكره المؤرخون المنصفون، ويقر به كل المعتدلين.
لم تتخلف اللغة العربية أبداً عن مواكبة التقدم العلمي على الرغم مما تعرض له العرب من حيف وظلم وبطش وغزو واحتلال على أيدي الغزاة الحاقدين في فترات طويلة من التاريخ قديما وحديثاً.
ومما يؤسف له أن البعض ممن جرفهم التيار الحاقد، تجرأوا وكالوا للغة العربية كثيرا من الاتهامات ووصموها بالجمود والتحجر والعجز عن مواكبة الإنجازات..ولعل قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية خير رد بالحجة القوية الدامغة والدليل القاطع على هذه التخرصات والخزعبلات.
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وتعتب على أهلها الذين هجروها إلى لغات غيرها:
ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالا وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
وتستنهض همم أبنائها وتحثهم على مزيد من الجد والعطاء:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عز الدواء أساتي
وتحذرهم- بعاطفة الأمومة- من العاقبة المرعبة والنهاية المخيفة:
فلا تكلوني للزمان فإنني أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً فليتكم تأتون بالكلمات
وتستعيد زمن عزتها في موطن نشأتها بجهود أبنائها البررة:
سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي في البلى وحفظته لهن بقلب دائم الحسرات 
وينتابه شديد الألم لما عصف باللغة من لحن شديد:.
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً من القبر يدنيني بغير أناة 
وأسمع للكتاب في مصر ضجة فأعلم أن الصائحين نعاتي
والأنكى أن البعض هجرها إلى لغات أجنبية تحذلقا ومباهاة، ظنا منه أن ذلك يرفع درجنه بين الناس.
أيهجرني قومي- عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات
ويهيب بأبناء اللغة ويستنهض هممهم لإنقاذ لغتهم العربية قبل فات الأوان، فلا ينفع آنئذ بكاء ولا ندم:
إلى معشر الكتاب والجمع حافل بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده ممات لعمري لم يقس بممات.
صرخة استغاثة أطلقها شاعر النيل لعلها تجد استجابة لتعود اللغة إلى عهد عزتها وازدهارها..لكن للأسف تزداد المخاطر التي تتعرض لها اللغة العربية على ألسنة الناطقين بها حيث شاع وانتشر اللحن حتى على ألسنة الأدباء من كتاب وشعراء في ظاهرة تملأ النفس أسى وحسرة.
لذا يجب على وزارات التعليم والثقافة والإعلام ودور الكتب والأساتذة في كل مراحل التعليم ، أن يعنوا باللغة العربية الفصحى عناية فائقة ويلتزموا بها صحيحة فصيحة بلا لحن أو تحريف، حتى ينشأ جيل يحب لغته مع إيمانه بأنها وسيلته للنهضة والتقدم ومواكبة العصر.
واعترافاً من العالم كله بأهمية اللغة العربية فقد اعتمدت الأمم المتحدة، الثامن عشر من ديسمبر في كل عام، يوما عالميا للاحتفاء بها تقديراً لدورها وأهميتها.
رحم الله جيل العباقرة من الأدباء والشعراء الذين تتردد أسماؤهم صباح مساء، عنوانا للبلاغة والفصاحة والبيان. ورحم الله أساتذتنا الذين رسّخوا في عقولنا حب اللغة العربية لترقى إلى درجة العشق الذي لا يبارى ، فنقلنا بالتالي ذلك إلى طلابنا عبر مسيرة تعليمية طويلة.. فكانوا عند حسن الظن وعلى قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم.. وفق الله الجميع لتظل لغتنا حية قوية تواكب كل مجالات التقدم والإبداع. 


 
 

دنيا الوطن