المرأة العربية حمّالة الاستلاب اللغوي أكثر من الرجل

د. محمود الذوادي

 هناك إهمال شبه كامل في العلوم الاجتماعية العربية الحديثة بالنسبة لدراسة دلالات السلوكيات اللغوية التي قد تختلف فيها النساء العربيات عن نظائرهن من الرجال. لكن من ناحيتي، فقد لفتت نظري ملاحظاتي الميدانية لبعض ملامح السلوك اللغوي الأنثوي المختلف عن نظيره الذكوري لدى المرأة التونسية، مثل ميلها الأكبر من الرجل التونسي إلى استعمال الفرنسية في حديثها وفي نطقها لها بما يسمى النبرة الباريسية. تتلخص المقولة الرئيسية هنا في القول بأن اللغة ليست مجرد أداة تواصل بين الناس فحسب، بل هي أيضا أداة رمزية تعكس أيضا وضع المرأة المستعملة لها على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية. ومما يساعد على فهم ودراسة رواسب الاستعمار اللغوي الفرنسي في المجتمع التونسي قبل الثورة وبعدها هو قيام الباحث بعملية تصنيف للفئات الاجتماعية التي تعكس سلوكاتها اللغوية والاختلافات في درجات تلك الرواسب عندها، بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال. يفيد الإجماع الشعبي والملاحظة الميدانية الواسعة بأن النساء التونسيات المثقفات والمتعلمات، على الخصوص، هن أكثر تحمسا للغة الفرنسية واستعمالها في الحديث والكتابة من نظرائهم التونسيين. ومن ثم، هناك مشروعية أولا لوصف المرأة التونسية بأنها حمالة للاستلاب اللغوي الفرنسي أكثر من الرجل. وثانيا محاولة فهم وتفسير ذلك السلوك اللغوي الأنثوي. وأستعمل هنا كلمة حمالة في معناها العربي الفصيح لا في معناها الخاص في العامية التونسية، والمرتبط بالحمل في سوق الغلال والخضر.

وتطبيقا لمنهجية التصنيف في الحديث عن استمرار الاستعمار اللغوي في المجتمع التونسي بعد الاستقلال، يمكن الحديث عن صنفين من الفرنكوأراب (المزج بين العربية والفرنسية) (أ الفرنكوأراب الذكورية وب الفرنكوأراب الأنثوية). وتتميّز هذه الأخيرة عن الأولى في كون الإناث التونسيات المثقفات والمتعلمات خاصة، يملن عموما إلى استعمال كمّية أكبر من الكلمات والعبارات الفرنسية أثناء حديثهن بالعامية التونسية. ومن ثمّ، فالفرق في استعمال اللغة الفرنسية من طرف الجنسين لا يقتصر على مجرد الفرق في نطق حرف الـ (r) بالنبرة الباريسية لدى النساء في لغة موليار، بل يتعداه إلى عدد الكلمات والجمل التي يستعملها كل منهما من هذه اللغة. وترجع رغبتهما في استعمال الفرنسية إلى أن اللغة الفرنسية لاتزال تمثل لكل من التونسي والتونسية شيئين رئيسيين: أـ إنها لغة الغالب وب ـ لغة الحداثة والحياة العصرية. فكل من أ وب هما عاملان يحفّزان التونسي والتونسية على الانجذاب إلى استعمال اللغة الفرنسية أكثر ما يمكن من أجل الرفع نفسيا من معنويات المغلوب/المغلوبة. ففي استعمال لغة الآخر المستعمرالقديم القوي شعور بتحسين الذات ورفع من مكانتها.
يجوزاليوم أيضا تصنيف لغة الأم عند النساء التونسيات إلى ثلاثة أنواع : 1ـ العامية التونسية العربية النقية التي لا تستعمل إلا المفردات العربية. وهي ظاهرة نادرة بين معظم التونسيات.2ـ العامية التونسية التي تحتوي على عدد كبير من الكلمات والجمل الفرنسية. وبالتالي يمكن تسميتها بالفرنكوأراب العامية المتداولة في كامل المجتمع التونسي.3ـ الفرنسية كلغة أم في المقام الأول لعديد التونسيات. إنها ظاهرة موجودة بدون شك بعد أكثرمن خمسة عقود من الاستقلال، وربما تكون ظاهرة أكثر انتشارا من الصنف الأول من العامية التونسية المشار إليها. وهكذا يتجلى أن اللغة الأم عند الأغلبية الساحقة من التونسيات ليست العامية التونسية العربية النقية، وإنما هي الفرنكوأراب. قد يتفوق رصيد اللغة الفرنسية بكثير عند العديد من التونسيات على رصيد اللغة العربية في حديثهن. فانتشار استعمال اللغة الفرنسية في الصنفين 2 و3 يعطي مشروعية للنظر للمرأة التونسية على أنها حمالة للاستلاب أو الاستعمار اللغوي الفرنسي.
إن ما يلفت نظر عالم الاجتماع في السلوك اللغوي للمرأة التونسية هو مبالغتها في استعمال اللغة الفرنسية بدل العامية العربية التونسية النقية في حديثها عن الألوان والمقاييس والأيام والأرقام. أوليس ذلك استلابا لغويا حتى في أبسط الأشياء؟ كما تستولي اللغة الفرنسية أيضا على النساء بطريقة شبه كاملة في الحديث على مقاييس طول وعرض الملابس. ومما لاشك فيه أن ذلك الاستلاب اللغوي لدى الأمهات التونسيات سيكون له تأثير سلبي على علاقة الأطفال والمراهقين التونسيين باللغة العربية، لغتهم الوطنية، الأمر الذي يساعد على ظهور أجيال تونسية منقطعة عن لغتها، ومن ثم عن هويتها العربية. ويجوز بسهولة كبيرة تعميم هذا السلوك اللغوي الأنثوي التونسي على معظم الأمهات في المغرب العربي ومجتمعات الخليج العربي.
أسباب هذا السلوك اللغوي النسائي
فلماذا تتفوق المرأة التونسية المثقفة والمتعلمة في انجذابها إلى الفرنسية على نظيرها التونسي فتغلبه في نطق حرف الـ (r) بالنبرة الباريسية وفي عدد المفردات والجمل التي تستعملها من اللغة الفرنسية أثناء سلوكها اللغوي في مجتمعها العربي؟
يحدد الإجابة على ذلك ما أريد أن أطلق عليه قانون الحتمية الاجتماعية النفسية. فعلى المستوى الاجتماعي تشكو المرأة التونسية الحديثة من دونية مزدوجة: (أ) فهي مثل نظيرها الرجل في موضع المغلوب بالنسبة للمستعمر الفرنسي القديم الغالب والغرب بصفة عامة. وهذا ما تؤكده الملاحظة الحصيفة لابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». و(ب) فهي تشكو من دونية ثانية مقارنة بزميلها الرجل في المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية عموما، وفقدانها التمتع ببعض مكاسب الحداثة خصوصا. فالبنى الاجتماعية وقيم وأعراف وتقاليد مجتمعها تضع أمامها عراقيل أكثر بالنسبة لمحاولتها التقدم اجتماعيا وسياسيا وكسب رهان الحداثة الكاملة. تجد نفسها في هذه الظروف معرّضة أكثر من الرجل التونسي إلى ضغوط وإحباطات نفسية. وسعيا منها لتجاوز هذا الوضع الاجتماعي والنفسي تلوذ إلى ما يمكن أن نسميّه بالحل الرمزي التعويضي. أي أن حالة عجزها على تغيير وضعها الاجتماعي مباشرة يجعلها تلجأ إلى أحضان اللغة الفرنسية كعالم رموز لغوي تقدّمي وتحديثي، فتستعملها أكثر من نظيرها الرجل وتتقن نطقها بالكامل، كما يفعل ذلك الباريسيون أنفسهم. واستعمال المرأة التونسية للرموز اللغوية كحلّ وعلامة على وضعها الاجتماعي المتأزم ليس بالشيء الغريب. فخطاب «الدعا» المتفشي أكثر أيضا بين النساء التونسيات مثال آخر على تفوقها في استعمال عالم الرموز. إذن، يجوز تأويل استعمالها المكثف للفرنسية وبالنبرة الباريسية في نطق حرف الـ (r) كاحتجاج سلمي ضد مجتمع ذكوري وتقليد بالكامل للآخر الفرنسي في لغته. أما محافظة التونسي عموما على نطقه حرف الـ (r) بنبرة الراء (ر) العربية ففيها أكثر من إشارة ورمز على وضعه الاجتماعي والنفسي. نعم هو منجذب إلى استعمال الفرنسية بسبب انجذابه للحداثة وبسبب وضعه المغلوب أمام الفرنسي والغربي بصفة عامة. ومع ذلك يبدو وضعه الاجتماعي والنفسي أحسن من وضع زميلته المرأة. وهذا ما يسمح له بالتميّز شيئا ما عن الفرنسي الباريسي وهو يستعمل لغته. فهو ينطق في الغالب حرف الـ (r) بنبرة عربية لا بنبرة باريسية. فكأنه بسلوكه اللغوي هذا يؤكد بإصرار التمسك بشيء من هويته العربية حتى وهو يقلّد الآخر في استعمال لغته. وهكذا، فعلى مستوى تقليد الآخر لغويا، فنحن أمام صنفين من التقليد: (1) تقليد بالكامل و(2) تقليد منقوص. وكل منهما حصيلة لنوع خاص من الحتمية الاجتماعية والنفسية. ويفصح هذان السلوكان اللغويان عمّا تتعرض له هوية كل من الجنسين في درجة الانصهار في الآخر. وكما رأينا، فميل وحب المرأة التونسية إلى انصهار أكبر في لغة الآخر يجعلها غير متحفظة ومن ثم أكثر استعدادا لتكون حمّالة لراية الاستلاب اللغوي الفرنسي أكثر من زميلها التونسي قبل الثورة وبعدها.
 

القدس العربي