اللغة العربية، لسان وإنسان

أ. هشام حمدي

 إن الأمم مهما تجردت عن خصوصياتها والْتَزَمَتِ الموضوعية العلمية في وصف الأشياء والمعارف فإنها لا تستطيع أن تُنَحِّيَ ذاتها الثقافية بصورة كاملة، بحيث تبتدع لغة مجردة تماما من الخصوصية الاجتماعية والثقافية ولئن كان ذلك مقبولا إلى حد ما في التعامل مع المصطلح العلمي الذي يتداوله الباحثون المتخصصون في الجامعات والمراكز العلمية، فإن ذلك مرفوض في حق المصطلح الحضاري الذي تحمله المنتجات والمخترعات الوافدة لأنه يدخل في صلب حياة الناس ويتداوله العامة ضمن لغتهم الأصلية.

واللغة العربية مع كونها أداة للنمو الروحي عند المسلمين حيث دخلت في صلب نهج العبادة فإنها إلى جانب ذلك لغة جميع العرب والمسلمين مهما اختلفت أجناسهم وتنوعت جنسياتهم وبها يتواصلون ويتعارفون والمحافظة عليها محافظة على وحدة العرب والمسلمين الثقافية وهويتهم الإسلامية، ولهذا لما توقف نموها وانتشارها ضَعُفَ أهلها وتفرقوا شيعا وأحزابا وصارت عودة اللغة إلى دورها مدخلا أساسيا لا بديل عنه لعودة العرب والمسلمين إلى مكانتهم.

يختلف الحديث عن قضية علاقة اللغة بفطرة الإنسان وعلاقتها بالناحية العقلية عنده في درجة الأهمية وحجم الخطورة عن الحديث حول علاقة اللغة بهوية الإنسان وذلك حين تكون العلاقة بالذات الثقافية وشخصية الفرد العربي والمسلم الشاملة للمعتقدات والتصورات والخصوصيات الشعبية والجذور العرقية والإثنية التي تحصن كل دولة على حدة، فالثقافة تعني لكل وطن فكره وأفكاره وقيمه وعاداته وأنماط سلوكه وطريقة حياته في مختلف جوانب نشاطاته الإنسانية، وهي عند العرب والمسلمين تعني نهج حياتها في جميع جوانبها المختلفة حيث تتكون في التصور الإسلامي من عنصرين أساسيين الأول الشكل وتمثله اللغة والثاني المضمون ويمثله الإسلام، ومن هنا يظهر الارتباط الوثيق بين اللغة العربية من جهة والدين الإسلامي من جهة أخرى، فالدين واللغة منذ النشأة الأولى متداخلان تداخلا غير قابل للفصل.

إن اللغة برموزها ومفاهيمها خاصية إنسانية يتميز بها الإنسان عن الحيوان فكذلك نوع اللغة خاصية شعوبية تميز الدول بعضها عن بعض، فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل والتفاهم فحسب وإنما هي بالدرجة الأولى أداة للتعبير عن الثقافة حين تنعكس مضامينها وأنماطها للعالم، وذلك حين تستمد مضامينها وموضوعاتها المختلفة من ثقافة المجتمع فتحفظ له بأمانة جميع ودائعه الثقافية، واللغة العربية مع كونها وسيلة للرقي الروحي عند المسلمين حين ولجت مسلك العبادة فإنها إلى جانب ذلك لغتهم أجمعين لذلك فالمحافظة عليها محافظة على وحدة المسلمين وهويتهم الدينية، ولقد كان لتوقف تطورها وعدم السعي في تطويرها ولا حتى المساهمة في نشرها وانتشارها عدة أسباب وعوامل نذكر منها فئة كارهة للغة العربية ومنها بعض المشرفين على وضع مقررات دراسية لا تساهم في تبيان بيان وبلاغة وفصاحة بل وجمالية اللغة العربية، أيضا هناك الأساتذة المكونون لرجل التعليم ثم رجل التعليم الذي يدرسها والمكلف بنقلها للتلاميذ، فئة ثانية أيضا تساهم عمدا أو سهوا بالزيادة في كراهية اللغة العربية وتضم بعض الأدباء والمفكرين والكتاب والشعراء من خلال إلحاحهم على استخدام واستعمال كلمات مهجورة، لننهي بعدم استيعاب اللغة العربية بعدُ للتكنولوجيات المعاصرة في علاقتها بالواقع العربي اليومي والتطورات العلمية السريعة والمتسارعة، هذا الضعف أدى إلى توجه الأعاجم من المسلمين إلى لغاتهم الأصلية وتفرقت الدول الناطقة بالعربية فرقا وأحزابا في حين كان أكثر من خدموا العلوم والمعارف بجميع أنواعها المختلفة من غير العرب، ليس ذنب اللسان هذا ولكن قد عشا أهل واستراحت عقول.

أخيرا، لا مجال أمام العرب والمسلمين اليوم للانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجبهة ثقافية عتيدة ولا ثقافة بدون هوية حضارية ولا هوية بدون إنتاج فكري ولا فكر بدون مؤسسات علمية وبحثية متينة، وببساطة لا علم بدون حرية معرفية كما أنه لا معرفة ولا تواصل ولا تأثير بدون لغة تضرب جذورَها في التاريخ وتشارف بشموخ منفتح ومتفتح على العصر وضرورات المستقبل الإنساني.

الإنسانية هي الحل
 

هسبريس