اللغة والتمايز الطبقي

د. صلاح جرّار

  يسعى كثير من الناس إلى تمييز أنفسهم عن غيرهم بوسائل مختلفة، باللباس تارة وبفخامة المنازل تارة أخرى، وبنوع السيارة التي يركبونها تارة ثالثة، وعدد الهواتف النقالة التي يقتنونها وأنواعها، ونوع الساعات التي يلبسونها، وربطات العنق التي يختارونها، وبتسريحة الشعر تارة رابعة، أو بهذه الأمور مجتمعة أحياناً.

ومن الناس من يحاول تمييز نفسه عن أبناء مجتمعه بالإفراط باستخدام مفردات وعبارات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية في حديثه مع الناس عامّتهم وخاصّتهم، أو باجتراح طريقة خاصّة في نطق الكلمات العربيّة، فيبدل الطاء تاءً، والثاء زاياً أو تاءً، ويبدل الظاء والذال زاياً، والصاد سيناً، والضاد دالاً، والقاف همزة، ومنهم من يجعل الجيم قريبة من الشين، ولا تكاد تجد أثراً لأحرف الطاء والضاد والظاء والثاء والصاد والذال والقاف على ألسنتهم، مع أنها أحرفٌ عربيّة لا يجوز التخلي عن استعمال أيّ منها.
وهم يلجأون إلى ذلك في محاولة منهم إلى لفت أنظار الناس إلى أنهم ينتمون إلى طبقةٍ رفيعة أو أسرة ثريّة أو متميّزة ثقافياً أو اجتماعياً. حتّى إنّ بعض محدثي النعمة أو من أدركهم الغنى في وقت متأخر يحاولون أن يحتذوا حذو هؤلاء المتنعمين والمتأنقين في لهجاتهم أو استخدامهم مفردات ومصطلحات أجنبية، فيعملون على ليّ ألسنتهم عمداً في محاولة منهم لإشعار الناس الآخرين بأنهم أصبحوا يستحقون التميّز عن غيرهم بعد أن أصبحوا من أهل الثراء والأملاك والأطيان والعربات الفاخرة.
ومن هنا يبرز دور اللغة العربيّة الفصحى التي لا تعترف بهذا اللون من التمايز الطبقي، وأنّ الناس متى تحدّثوا بها فإنّها تخفي انتماءاتهم الاجتماعية والطبقية، ولا تقرّ لهم إلاّ بلونٍ واحدٍ من التمايز هو التمايز الفكري والعلمي، فكلّما ارتقى فكر المرء وزاد تحصيله العلمي ارتقى مستوى التعبير اللغوي عنده. كما أنّ العربيّة الفصيحة لا تتنكر لأيّ حرفٍ من حروف اللغة العربيّة التي هي مكونٌ رئيسيّ من مكونات الهويّة الثقافية العربيّة.
إنّ هذه الخاصّية للّغة العربيّة تكشف عن دورٍ جديد قديم لها، وهو قدرتها على إزالة الفوارق الطبقية داخل المجتمع وتحقيق التلاحم والسلم الاجتماعي والحفاظ على المساواة والإعلاء من شأن معايير الفكر والعلم والثقافة بين أبناء المجتمع.
لذلك فإنّ هذه الخاصيّة للّغة العربيّة الفصيحة تمثل دافعاً أساسيّاً آخر يضاف إلى الدوافع المعروفة للحث على تعليم العربيّة الفصيحة ونشرها بين الناشئة وسائر طبقات المجتمع، وذلك حفاظاً على المجتمع وتلاحم أبنائه.
 

الرأي