هل العربيّة لغة محافظة؟

أ. منصف الوهايبي

 لا نظنّ أنّ هناك من يجادل في  أنّ العربيّة «الفصحى» أو «المُعربة» تكاد تكون مقصورة من حيث الاستعمال؛ على الفضاء «المغلق» الخاصّ، ولا أحد يتكلّمها في الشارع أو البيت. والعربيّة من هذا الجانب «لغتنا الأمّ الثقافيّة» أو «لغة الأب» أكثر منها لغتنا الأمّ التي نستعملها في حياتنا اليوميّة أو في معيشنا؛ بسبب من ظاهرة الإعراب التي تحرّرت منها اللغات الساميّة. ولعلّنا نكون في الصّميم من أمر هذه الظّاهرة ظاهرة التّصرّف الإعرابيّ، اذا أخذنا بالاعتبار أنّ الفصحى من حيث هي لغة مكتوبة ثابتة بطبيعتها، أدّت إلى تثبيت هذه الظّاهرة، جاعلة منها عنصر محافظة؛ مثلُه مثَلُ عناصر أخرى تتضافر كلّها في صياغة السّمات المميّزة لنظام الفصحى العامّ. ومنها هذا النّزوع الى الأصوات الصّامتة وبخاصّة الحلقيّة والحفافيّة والمطبقة وما يرافقه من قلّة عدد الحركات والاحتفاظ بالمصوّتات القصيرة الأخيرة سواء منها ما كان للإعراب أو للتّصريف ممّا كان له أثر بالغ في نظام الكلمات وفي إيقاع الشّعر وإنشاده، ولعلّها تؤكّد ما قاله سيبويه من أنّ الشّعر «وضع للغناء والتّرنّم»؛ بل أثر في الكتابة العربيّة نفسها من حيث هي كتابة تنظيميّة لا تهتمّ الاّ باختلافات النّطق التي ينتج عنها تفرقة بين الصّيغ النّحويّة أو الكلمات.

ومن هذه السّمات احتفاظ العربيّة لكلّ كلمة بوزنها الصّريح وصيغتها الثّابتة التي لا تتحوّل مهما تكن اللاّحقة الضّميريّة أو التّحويليّة التي تلحق بها. وقد يعدّ هذا الحفاظ الشّديد على الوزن سمة سلبيّة، «فلكي يؤدّي القياس دوره أريد لهذه اللّغة أوّلا أن يتوفّر لها الاستقرار وسلامة النّموذج المقيس عليه». على أنّ له جانبا إيجابيّا لا ينبغي إغفاله، مردّه إلى الخصوبة الشّديدة التي يؤمّنها القياس للوزن. فثمّة إخصاب في الأوزان تتعدّد فيه المدلولات محتفظة بوضوحها وتمايزها على أساس نحويّ ومعنويّ دلاليّ. وفي تمسّك العربيّة بالمصوّتات القصيرة الأخيرة في الإعراب والتّصريف سمة محافظة، ولكنّ استخدامها في نظام شديد الشّمول والدقّة في التّركيب العربيّ يعدّ أمارة على عقل منظّم، يشبه المداخلات الجبريّة؛ ممّا يساعد على تحديد الكلمات داخل الوزن.
ولعلّ أدقّ صورة لهذا الوزن، تلك التي يقدّمها كانتينو في كتابه «أصول وأوزان» فـ»لكلّ كلمة أصلها ووزنها، ومن الممكن أن تشبّه المفردات بنسيج لحمته هي مجموع الأصول المروية في اللّغة، وسداه مجموع الأوزان الموجودة. فنقطة التقاء (أو تقاطع) السّدى واللّحمة تعدّ كلمة، لأنّ كلّ كلمة محدّدة دون لبس بوساطة أصلها ووزنها. وكلّ وزن يقدّم في الواقع من جانبه كلمات ذات أصول مختلفة، كما أنّ أغلب الأصول تقدّم كلمات ذات أوزان مختلفة». وهي صورة يمكن أن توضّح لنا جانبا من طبيعة الوزن الشّعريّ الذي نعدّه من طبيعة العربيّة ومن ألطف خصائصها.
نخلص ممّا تقدّم، وإن كان يحتاج إلى تفصيل، الى أنّ السّمات المميّزة للعربيّة، سواء ما تعلّق منها بظاهرة التّصريف الإعرابيّ والنّزوع إلى الأصوات الصّامتة وخصوبة الأوزان أو بصرف الأسماء وصرف الأفعال، تضفي على نظامها العامّ طابعا مزدوجا؛ فهو محافظ من جهة ومبتكر من أخرى. وهذا، على ما نرجّح، مظهر من مظاهر «شعرية اللّغة» أو جماليّتها. ولكنّه لا يجعلها لغة المعيش واليومي.
ونرجّح أنّ هذا الطاّبع المزدوج هو الذي يحكم الشعر ويؤثّر فيه تأثيرا متفاوتا. والأمر لا يتعلّق بموضوعات شعريّة وأخرى غير شعريّة، ولا بمجرّد أغراض متأصّلة وأخرى مستحدثة، ولا بأفكار جديدة في صياغة قديمة أو بأفكار قديمة في صياغة جديدة.
والأمر راجع في جانب لا يستهان به، إلى هذا الطّابع المبتكر في العربيّة نفسها. وقد استثمره شعراء العربيّة وكتّابها، منذ أن كان لدى العرب أدب وشعر خاصّة. وعليه أداروا موضوعاتهم ولا يزالون. ومنهم من دفع به الى لغة فنيّة «جديدة» كان فيها نظام اللّغة القديم ينطوي على نفسه ويطوي على وظيفته الإبلاغيّة المرجعيّة، والخطاب الشّعريّ ينشأ من حيث هو خطاب في الشّعر، واللّغة تتحوّل من أداة معرفة إلى موضوع من موضوعات المعرفة. وهذا أمر يحتاج إلى تفصيل وتدقيق، فاذا كان الشّعر منوطا إلى حدّ كبير بالصّياغة اللّغوية، فانّ طرافته تتركّز في هذا الطّابع المبتكر الذي هو من خصائص بنية اللّغة أي تلك التي تسمح لأحد الممكنات الشّعريّة بالحدوث كلّما اتّفق أن تضافرت ظروف ما أو ملابسات ما، قد تكون اجتماعيّة أو ثقافيّة أو حتّى ذاتيّة من شأنها أن ترسّخ في اللّغة طابعا محافظا أو طابعا مبتكرا.
ولن يتسنّى لنا بمعزل عن تلك الظّروف والملابسات، وبخاصّة ما تعلّق منها بجمع اللّغة ووضع قواعدها في القرون ا لثّلاثة الأولى للهجرة؛ أن نتوصّل إلى فروض راجحة عن أسباب الحدوث الشّعريّ والتّغيّر اللّغويّ في الآداب العربيّة قديمها وحديثها.
على أنّها أسباب ليس من اليسير ـ لفرط تنوّعها واختلاف طبائعها ـ أن نحدّها كلّها أو نلمّ بها جميعها، فمنها ما يرجع إلى اللّغة، ومنها ما يرجع إلى النّص، بل لعلّنا نفيد من النّص معرفة بها أوفر وأعمق، خاصّة أنّها تحفّ النّص في الكثير من مسالكه. ونشير منها ها هنا إلى مظاهر التّغيّر اللّغوي في العلامة المكتوبة. وقد آن أن ندرسها في خضمّ هذه التحوّلات اللغويّة «العجيبة» ووسائل الاتصال الاجتماعي التي لا ندري أيّان ترسي بهذه العربيّة الفصحى حيث تلوح مفردات وكلمات غير قليلة، أشبه بشواهد القبور، في «جبّانة اللغة».
ومن نافل القول أن نذكّر بأنّ اللّغة تتطوّر وأنّ العلامة أو الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد. بل أنّ تطوّر العلامة يمكن أن يفضي عبر تحوّلات وتناسخات لغويّة كثيرة لا إلى تغيّرها فحسب، وإنّما إلى زوالها أيضا، ناهيك عن أثره في لغة الأدب وفي إيقاع الشعر، وبنية هذا أو ذاك  الصّرفيّة والنّحويّة والبلاغيّة والمعنويّة أو الدّلاليّة. وموقف القدامى  وحتّى بعض المعاصرين ممّا يسمّونه « أخطاء العامة» أو «لحن العامّة»، يرجع أساسا إلى هذه المسألة مسألة تطوّر اللّغة، فقد عدّوه من السوقي، أو المستكره من لهجات البدو. غير أنّ هناك صعوبة ليس من السّهل تذليلها فنحن لا نملك صورة دقيقة للعامّيات العربيّة أو المحكيّة؛ حتّى نتحرّى بشيء من الاطمئنان العاميّ من الفصيح، أو نقف على ما يجمع هذا إلى ذاك؛ عسى أن تكون هناك ملاءمة ما بين الفصحى في قوّتها وما يجري منها على القياس والاشتقاق خاصّة، والعاميّة أو المحكيّة في قدرتها على تصريف شؤون الناس اليوميّة.
وربّما أسعفتنا هذه الكتب المؤلّفة في» لحن العامّة» أو تلك التي عنيت بهذا المبحث، وما تحويه من أبواب تكاد لا تختلف من مصنّف إلى آخر، مثل باب ما لا يهمز والعوّام تهمزه وما يشدّد والعوّام تخفّفه وما جاء محرّكا وهم يسكّنونه، وما يعدّى بحرف صفة أو بغيره والعامّة لا تعدّيه، أو لا يعدّى والعامّة تعدّيه، وما جاء مكسورا والعامّة تفتحه، أو ما جاء فيه لغتان استعمل النّاس «أضعفهما»…
ولعلّنا لا نملك،تلقاء مسألة كهذه، سوى الإقرار بأنّ الكلمة تغيّر ما بها من المعنى أكثر ممّا هي تضمحلّ أو تتلاشى؛ ولكن كلّما بقي «الشيء» قائما أو مستعملا. ويتّخذ هذا التّغيّر طرائق تشمل التوسّع في المدلول الذي يتولّد منه توسيع في المعنى، وتحوّل الكلمة كلّما تنقّل المعنى من شىء إلى آخر؛ وقد تتّسع الكلمة في حقبة لجملة من المعاني، ثمّ تقصر في أخرى على معنى واحد، وقد تمرّ الكلمة بالطّورين معا: انتشار يعقبه انحسار.
ولعلّ معضلة العربيّة إذاً في « شعريّتها» التي قد تكون زائدة على اللزوم. والمقصود بهذه الشّعريّة إنّما هو التّنويع الشّعريّ على مانسمّيه «جذرا» في نظام اللّغة أو أصلا أو «ثابتا»؛ وكأنّ التّحوّل الشّعري، هو في جانب منه، من تحوّل اللّغة الدّاخليّ: فـ»الأصل» في العربيّة صامت يتكوّن من صوامت فحسب هي «الدّال» وما يقدحه في الذّهن من فكرة عامّة أو صورة ذهنيّة؛ هي مدلوله. على أنّ «الأًصل» لا يوجد لذاته أو بذاته، بل هو ليس سابق الوجود. فهو جزء من كلمات «مختلفة» تتأدّى في حيّزه، بوساطة المصوّتات التي تضفي على الكلمة معناها أو مدلولها، على أساس من طابع المصوّت وكميّته أو مدّته، من حيث الطّول والقصر. على أنّ هناك عاملا آخر لا يستهان به، وهو «شعريّ» أيضا، بالمعنى الواسع للكلمة؛ فالقرآن ليس شعرا بمعنى القصيدة، ولكنّه كذلك بمعنى» الصنعة اللطيفة في نظم الكلام» بعبارة الباقلاني عالم الإعجاز. والعامل الديني إنّما يدير العربيّة على حفظ النصّ: دون زيغ عن حدودها المرسومة؛ وكأنّها تؤدّى كما تؤدّى الأمانات.
 

القدس العربي