
الفروق الفردية في العربية الشفهية
د. زين العابدين سليمان
تقديم
تعتبر اللغة الوسيلة الحيوية والفعالة التي يمكن بواسطتها التوصل إلى سريرة الإنسان وشخصيته، فهي تكشف عن مضامين ما يوجد في النفس البشرية، من أحوال وأمور وأشياء في طريق الإنجاز، تتعلق بالأصل والفصل والوسط البيئي الذي نشأ فيه الفرد، كما ترتبط بجوانب مستترة وخفية في النفس لدى الأفراد.
من هذا المنطلق أقول إن الأفراد لا يتكلمون بطريقة واحدة حتى في حالة انتمائهم إلى وسط طبيعي واحد، بحيث نجد فروقا واضحة في كيفية استجابتهم للمواقف المتشابهة، وكذلك في حصيلتهم اللغوية من المفردات العربية ونوعيتها، وفي تمايزهم من حيث الأداء، هذا الأخير الذي يبقى المحدد الوحيد لكل الفروق الفردية في العربية الشفهية، وذلك لاعتمادها بالدرجة الأولى على الكلام.
إن ظاهرة الفروق اللغوية على المستوى الشفهي عملية عامة بين بني البشر، تنجلي بشكل واضح عبر الأداء الصوتي الكلامي، وتتطلب وجود متكلم ومخاطَب ومقام تخاطبي، فهذه العناصر مجتمعة هي ما يشكل عملية التواصل الشفهي، حيث يلجأ المتكلم إلى الكلام قصد إبلاغ رسالته إلى المستمع بصورة ناجحة وخالية من اللبس، فتحصل بذلك الفائدة لدى المتلقي، وتتم عملية التواصل بنجاح كبير، ورغم حصول هذا التواصل الشفهي إلا أن أدائه يتم بطرق مختلفة وفروق متنوعة، وسنقوم بمقاربة هذه الفروق ومدى تأثيرها على اللغة العربية من خلال العناصر التالية:
1 – علاقة الأداء بالإرسال والاستقبال
إن عملية الإرسال تستلزم كلاما معينا من مرسل متكلم، إلى آخر مستقبل مدرك لما يمكن أن يستقبل، كما أن المرسل يتطلب منه نقل رسالة صوتية مسموعة، وبثها عبر مراحل متتابعة، تبدأ من دماغ المرسل، وتنتهي إليه من خلال نشاط الأعصاب، ويحصل الإدراك النهائي للحدث المسموع في الدماغ( )، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه بالإرسال، فمهمة الباث المرسل لا تتوقف على تحريك شفتيه أو أعضاء جهازه النطقي، بل أكثر من ذلك بتوجيه رسالة منطوقة تتضمن أفكارا ومعاني، وتهدف إلى إفهامها لدى المتقبل، وهذا ما يضطر المرسل إلى إعادة الرسالة بتراكيب ومفردات متنوعة، وبطرق موسيقية وتنغيمية مختلفة، لأن الإرسال يعتمد على درجات تنغيمية متفاوتة، فيمكن الإرسال بألفاظ واضحة وبصوت عال ولا يفهم لدى المستمع، وقد يكون بألفاظ صعبة وصوت منخفض ويفهم لدى المستمع.
فالأداء اللغوي الشفهي يتحقق بشكل فعلي، إذا كانت درجات تنغيمه تتفق مع معانيه، لأن مراعاة المعاني هي أول خطوة يبدأ بها تشكل الصوت اللغوي المسموع، بعد عملية اختيار الكلمات المناسبة، وبعد عملية ترتيبها في الذهن، فالمرسل هو الطرف الأول المباشر لعملية الإرسال، والمستقبل هو الطرف الموالي لهذه العملية، فدرجة فهمه للمعاني مرتبطة كذلك بطرق أدائها لدى المرسل كما سبقت الإشارة.
وتبقى مهمة المستقبل في مدى فهمه وإدراكه لفحوى الخطاب المنجز من خلال تحويله عبر جهازه السمعي بواسطة الأعصاب لكي يصل إلى الدماغ، هذا الأخير الذي يقوم بتأويله، وتحويله إلى أفكار لكي يقوم المستقبل بعد ذلك بمهمة المرسل، وهكذا تكون درجات الإرسال نفسها درجات الاستقبال، لأن المرسل كما قلنا يتحول إلى مستقبل والعكس صحيح، كما يشتركان في العملية الكلامية السمعية، ونستنتج أن العلاقة بينهما تكاملية، ومن الضروري أن يصل الطرفين إلى التفاهم والتواصل الصحيح، وهذا الأخير لا يكون إلا من خلال الأداء الشفهي الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين الإرسال والاستقبال، ومن تم التمييز بين أداء المرسل وتأويلية المستقبل، لكي تحافظ الرسالة اللغوية على معناها المقصود، ولكي تحظى اللغة العربية بقيمتها التواصلية.
2 – الأداء والتأويل الصوتي
تكمن الغاية من التأويل الصوتي في مساعدة المستقبل على فك رموز الرسالة الصوتية، التي قد لا تسعفه ( المستقبل ) للوصول إلى الفهم، والتواصل مع المرسل، فالتواصل لا يتوقف على تحليل الرسالة فقط، بل قد يتجاوز ذلك إلى تأويلها، فالغاية من التأويل الصوتي هو رغبة المتكلم، والمستقبل المؤول في التواصل والتفاهم والإدراك المتبادل، من خلال فهم أفكار بعضهما البعض والتجاوب معها، كما أن التأويل الصوتي لا يمكن أن يتم دون مراعاة طريقة أداء الكلام.
وقد لا يتطلب التأويل إذا سلمت الرسالة اللغوية الصوتية من الغموض، وكانت مفهومة بين المرسل والمستقبل، كما أن الأصل هو المحافظة على المعنى كما بثه المرسل، لأن التأويل يؤدي في بعض الأحيان إلى عكس ما وضع من أجله، (خلق فوضى ولا تواصل)، لذلك وجب مراعاة المقاييس التالية:
- التروي في تأويل الرسائل الصوتية، وعدم التسرع لما ينتج عن ذلك من تداعيات سلبية.
- الإعتماد على البساطة والوضوح في التأويل الصوتي وعدم فتح أبواب بعيدة عن نطاق الأداء المناسب.
3 – الأداء والحالات الاجتماعية والنفسية للمتكلم
إن للعامل النفسي والاجتماعي أثرا بارزا في تغير دلالة الألفاظ وطريقة أدائها، لذا فمراعاة الحالة النفسية والاجتماعية للمخاطَب أمر ضروري، حتى يتسنى له إدراك المعاني واستيعابها، تقول الدكتورة سعاد بسناسي " تعد القدرة على مراعاة الحالة النفسية والإجتماعية للمستقبل، شرطا مهما في العملية الإرسالية، فالمتكلم يخاطب غيره فيختار لكل حالة نفسية واجتماعية ما يناسب من الألفاظ والتراكيب، فلا يستعمل التراكيب الدالة على الحزن ومُستقْبِله فرحا أو العكس"( ).
إن الألفاظ التي تتأثر طريقة أدائها بالعامل النفسي والاجتماعي وتتغير مع ذلك دلالاتها، هي الألفاظ التي يستقبحها ويستكرهها المستقبِل، لذا تغيرت وحلت محلها ألفاظ أخرى، ومنها تلك التي ارتبطت في الثقافة العربية والإسلامية بالعلاقة الجنسية وما له علاقة بذلك، إذ استبدلت هذه الألفاظ بأخرى، وتغيرت طريقة أدائها لتدل على هذه الأشياء بصيغ غير مباشرة.
كما أن العوامل النفسية المتمثلة في الخوف والتشاؤم والحزن والفرح وغيرها، تتم مراعاتها من خلال ألفاظ مضادة لها، كما هو حاصل مثلا في نعت الأعمى بالبصير أو المرأة العاقلة بالبلهاء، وغيرها من الألفاظ التي توظف لأضدادها لتجنب التأثيرات النفسية، ومن مجالات هذه الأخيرة نجد كذلك ألفاظ المبالغة، حيث يلجأ المتكلم إليها ليصف أشياء بطريقة مبالغ فيها، ومثال ذلك نحو قول المتكلم لمخاطبه الذي تأخر عن موعده معه" إنتظرتك عاما" بالرغم من أنه لم ينتظره سوى نصف ساعة أو ساعة واحدة.
وتتمثل كذلك مراعاة الحالة الاجتماعية في الأداء الشفهي للمتكلم من خلال نوعية الجنس، فالمذكر عادة يتميز بصوته الحاد، والمؤنث بصوته الرقيق، وهذا ما يجعل أداء الجنس المؤنث يختلف عن أداء المذكر، وإذا حدث العكس وتكلم المذكر بصوت مكتوم وضعيف، يدل ذلك على أن شخصيته ضعيفة أو أنه في موقفِ خجلٍ، وإذا تحدث الجنس المؤنث بصوت عريض يدل على القلق وعدم الاتزان، وهذا كله يؤكد على الفروق في اللغة العربية المنطوقة.
4 – الأداء والإشارات الجسدية
إن المتأمل في أي أداء شفهي داخل النشاط التواصلي الإنساني، يظهر له بشكل جلي ما يرافق هذا التواصل من حركات جسدية وإشارات، ولا يمكن عزلها عن أي أداء شفهي وقد انتبه إلى ذلك مجموعة من الباحثين اللسانيين نذكر سيمون ديك على سبيل الذكر لا الحصر، الذي لا يقوم بدراسة هذه الحركات إلا داخل حلقة التواصل الشفهي اللفظي، لكونها لاصقة بالنشاط الكلامي، ويمكن ذكر أهم هذه الإشارات التي تزكي الكلام وتعوضه في بعض الحالات، من خلال تحريك بعض أطراف الجسد، كتحريك السبابة أو الرأس، والملاحظ كذلك أن هذه الحركات منها ما يكون عفويا لا إراديا، وتساهم في تعزيز وتسهيل العملية التواصلية، ومنها ما يكون مقصودا يلتجأ إليه المخاطب لإخفاء غاياته من كلام ما، أو في التعبير عن عدم رغبته في العملية التواصلية.
وقد تتخذ الإشارات الجسدية أشكالا وتعبيرات شتى، فالإشارة بواسطة اليد تدل على دعوة المخاطب للمجيء أو التوقف، ورفع الإبهام مع ضم باقي الأصابع يدل على الموافقة والتشجيع. كما أن عضلات الوجه تعبر عن مجموعة من الدلالات والعواطف، كالإعجاب والتقدير والإشفاق، والتحقير وغيرها، ونجد كذلك العين تسعف المخاطب على فهم فحوى خطاب المتكلم ومقصده، يقول أبن حزم في هذا الصدد "فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر وتفتيرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرج، والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه، والإشارة بمؤخر العين كلتاهما سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين نهي عام"( ). وهذا ما يجعل العين وتعبيراتها تبقى عصية على الفهم والإدراك إلا إذا رافقها أداء شفهي يتطابق مع حركتها وزاوية نظرها، وبذلك تبقى للعربية الشفهية كلمتها في التعبير عن الآراء، والإفصاح عن المواقف.
خلاصة
نخلص في الأخير إلى أن الأداء الشفهي في اللغة العربية يعتبر من أنجع وأهم الطرق لتوصيل المعلومات وإفهامها واكتسابها عبر مداخلات شفوية، وبذلك فهو قدرة وكفاية يمكن أن يتجاوز مرحلة الحفظ الآلي للمفردات والأسماء والتواريخ والأحداث والقواعد، ليكون مجالا لتعميم المكتسبات بشكل يجعل المتعلم:
- أولا قادرا على التعبير عما تعلمه على شكل جمل، وبأسلوبه الخاص.
- ثانا يوسع دائرة أفكاره ويزوده بما يعوزه من المفردات والتراكيب.
- ثالثا يعبر عن موضوع ما في مدة زمنية معقولة.
- رابعا يعوده ويعده لكي يكون قادرا على مواجهة المواقف التي تتطلب فصاحة اللسان والقدرة على الارتجال.
إن التمكن من إجادة التعبير الشفهي باعتباره جزءا رئيسيا داخل المجال اللغوي بقوله تعالى في كتابه العزيز"واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي"( )، لا يتأتى إلا بالممارسة المستمرة ودوام التدريب، لهذا وجب الاهتمام به وإعطائه المكانة التي تليق به من أجل الحفاظ على اللغة العربية وتيسيرها، وجعل المتعلمين يهتمون بها، ويولونها المرتبة المتقدمة في تعلماتهم الحياتية، مع الأخذ بعن الاعتبار الفروق السائدة بينهم.
|