ضاعت لغتي....

أ. ريان سعيد

 لفتني عنوان مقال على موقع "السي إن إن" يتحدث عن العائلة الملكية في بريطانيا، ولأنّي شبه مهتمة بدكتاتورية الملكة إليزابيث وقوانينها الصارمة مع زوجة حفيدها الأمير ويليام، دخلت الرابط وبدأت بالقراءة. ولدى قراءتي، مرّت معي كلمة إنكليزية جديدة على مسامعي، لذا حاولتُ الاستعانة بموقع غوغل لترجمتها، لم تأخذ العملية سوى بضع ثوان ليقدم لي هذا الموقع الشهير ترجمتين للغتنا العربية غير المقسمة على حد علمي، إلا إن لغتنا لدى غوغل تكتب بطريقتين: الأولى كُتبت بأحرف اللغة العربية كما عهدناها، والترجمة الثانية ظهرت بلغة تسمّى "العربيزي" أي اللغة التي تلفظ عربياً وتكتب بأحرف وأرقام لاتينية، استوقفتني هذه الكارثة كثيراً، لم أتوقع من اللغة "مع تحفظّي على هذا المصطلح" التي اعتبرناها في بداياتها حركة شبابية معاصرة، أنها ستطوف بنا إلى حد إهانة اللغة، لم نعِ حين استخدمناها أنها تريد تدمير لغة الضاد، في تلك اللحظة شعرت بمسؤولية لامتناهية تجاه هذا الأمر، خاصة وأنني شاركت يوماً ما بانتشارها من خلال كتابتي لها. إنها لغة "النت" كما يُطلق عليها في الأوساط الشعبية، التي حسبناها تسلية، وحسبنا الأرقام المتداخلة في الحروف هي شيفرات تباهينا بفكّها، حيث كنا متحمّسين جداً في بدلية انتشارها على حفظ الأرقام والأحرف التي تشير إليها لنتقنها عوضاً عن اللغتين الانكليزية والفرنسية التي ما أتقنّا إحداهما يوماً في مدارس الدولة! لم أعِ حينها أنّي كنتُ أساهم في تفتيت لغتي، وما توقعت يوماً أن أترجم كلمة من غوغل لتعرضها لي باللغة العربية وبالأسلوب "العربيزي"الفاقد كل معاني اللغة.

انتشرت هذه اللغة في الألفية الثانية، ويرجّح بدءُ استخدامها مع المبتعثين العرب الذين اضطروا إلى استخدام شبكات المحادثة المنقولة "كاي آر سيو هو" وهو نظام التبادل الفوري المعتمد على نظام البونكس، وهو نظام دردشة عبر الرسائل لا يتضمن الحروف العربية، مما اضطرهم إلى استخدام الحروف اللاتينية للتعبير بالعربية، وذلك لتسهيل عملية التواصل مع أفراد أسرهم في موطنهم الأصلي، لتنخفض بذلك كلفة الاتصالات المرتفعة، ولا بد أن نشير الى أن هذا النظام كان قد انتشر قبل الهواتف المحمولة، وفي سبب آخر لسريان هذه اللغة هو انتشار الرسائل القصيرة (sms) التي أتاحت لمستخدميها عدد حروف لاتينية أكثر في الرسالة الواحدة بعكس الرسالة النصيّة باللغة العربية وعدد حروفها القليل.
تعددت أسباب انتشار هذه اللغة لكن النتيجة واحدة: اللغة العربية مضروبة بفعل فاعل، لا بل مهددة، وهل نضع اللوم على الدولة أيضاً؟ هذه المرة الأمر مختلف تماماً، ويتعلق بمسؤوليتنا المباشرة كأفراد عن لغتنا العربية المؤتمنين عليها، بعيداً عن الشعارات واستنزاف المشاعر. ماذا عن هويتنا الشخصية واللغة الأم؟ وكيف وصل بنا الحال أن نخبّئ في نفوسنا كل هذه المشاعر الحاقدة على اللغة العربية غير الـ"كلاس"، لا أعلم من صنّف اللغات بالترتيب، ولمَ تموضعت لغتنا تحت هذا التصنيف؟ مع أن اللغة العربية هي من أوسع اللغات وتحمل في جعبتها آلاف المصطلحات خلافاً للغات الأخرى.
ذكرت لي مراقبة لامتحانات الشهادات الثانوية أنها شاهدت بعض الطلاب يجيبون على أسئلة إحدى المواد الحفظية بلغة النت وتقول "في البداية ظننتهم يكتبون باللغة الفرنسية، وهذا مسموح طبعاً ولكن حين وقع نظري على إجابة أحدهم صعقت لإجابته، ومع أني حذرته إلا أن الطالب مضى في الكتابة مدعياً عدم إجادته لكتابة اللغة العربية بسرعة مثل لغة النت.
وتذكر مصححةَ أخرى أنه يمر عليها بعض الاجابات بهذه اللغة، وتقوم بحذفها حتى ولو كانت صحيحة، وبحسب قولها "الدولة لا تجبرني على تصحيح أي ورقة بغير اللغات المعترف بها، في حين تضيف زميلتها بأنها تصحّح مثل هذه المسابقات لكي لا تساهم في فشل الطالب دراسياً، وتكمل "على المدارس أن تلفت النظر للطالب، وعلى الطالب ألا يتهاون مع هذا الأمر، معبِّرة عن مدى خطورة استبدال اللغة العربية بلغةمستخدثة منذ سنوات فقط.
لا يقتصر أمر اللغة العربية على كتابتها بأحرف لاتينية فحسب، بل يشمل هذا الأمر الاستلشاق باللغة العربية وكأنها في دستورنا اللبناني ليست اللغة الأولى. فيحدث مثلاً أن تدخل إلى المطاعم اللبنانية لتجد لائحة الطعام مكتوبة باللغة الانكليزية على اعتبار الشعب اللبناني شعباً مثقفاً يتقن ثلاث لغات، ولا بد لنا أن نتفاخر بجملتنا الشهيرة عن المواطن اللبناني "الزلق" الذي يلقي تحيته بثلاث لغات "كيفك- - hi -cava"! بالفعل إن شعبنا العظيم "كذب الكذبة وصدّقها". لا لسنا مثقفين فلنعترف بذلك. نصبح مثقفين حين نحافظ على ثقافتنا ولغتنا، لا حين نتعاير من اللغة ونتناسى قراءتها. لا، يا أًصحاب المطاعم والمقاهي لن ترتفع أسهم أماكنكم إذا كانت لوائح الطعام لديكم بلغة تفرضونها علينا، لإقصاء فئة من المجتمع، على اعتبار أن الفئات غير المثقفة لا داعي لدخولها مثل هذه الأماكن، وأينما ذهب اللبناني في بلده فهو يحتاج للتحدث بغير لغته. بنظرة سريعة على شاشات التلفزة والبرامج اللبنانية تحديداً تشعر بالضيوف الموجودين مستشرقين في بلادهم وإن أرادوا التعبير بلغتهم الأم وجدتم الشقاء بأعينهم. 
حقيقة يجب أن نقول "كفى" تمثيلاً على الناس وكونوا عفويين مع أنفسكم. تحدثوا بلغتكم كما شئتم، لغتنا ليست عاراً بل مدعاة للمفخرة. فقبل أن ندّعي بما ليسنا فيه، أسعوا لتوقيف التسرب المدرسي علّ أطفالنا يتعلمون لغتهم ولغات العالم أجمع. مخطئ من يظنني تهجّمت على تعدد اللغات، ولكنني اليوم تحدثت بصوت لغتنا الأجمل والأرقى وثالت أصعب لغة في العالم. تحدثت بصوت المواطن اللبناني الذي لم يحظَ بفرصة تعلم لغة تجعله "كلاس " في مجتمعه.
 

البيان