أ. هدى فخر الدين
قصيدة النثر تحد وشعراؤها منظّرون أصلاً وثمة بينهم من يرى أن القصيدة وسط بين الشعر والنثر وأن الشعر الخالص شيء آخر، وقصيدة النثر ليست شعراً إذا قارناها بالتراث الشعري العربي سواء في تشطيرها أو توزيعها وغالباً ما نشعر بأنها تكاد تكون مترجمة.
إن الكلام النظري الذي يدور حول قصيدة النثر وتعريفاتها ومواقف مناصريها ومهاجميها، والحديث عن تحققها أو استحالته في الشعر العربي أو في غيره، لا يوصلان الباحث أو القارئ إلى نتيجة شافية. الامتحان الحقيقي لهذه الأفكار والمواقف يكمن في النصوص نفسها. ولذلك رحت أبحث عن قصيدة نثر واحدة تكون حجة أو نموذجاً مسوغاً لقصيدة النثر العربية. إلا أن قراءة أعمال شعرائها من أمثال محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبي شقرا وقاسم حداد ومحمد بنيس وعباس بيضون وغيرهم بيّنتْ لي أن مهمتي شبه مستحيلة. إذ وقعت على نماذج مختلفة جدا وتبين لي سريعا أني لا أبحث في اتجاه شعري معين بل في اتجاهات متعددة. التعميم صعب جدا والأحكام الشاملة متعذرة في ما يتعلق بأعمال شاعر واحد ممن ذكرناهم، فكيف يمكن أن نطلق أحكاما تتعلق بكتاباتهم جميعا.
إلا أن المثير للانتباه هو أن ما يقوله شعراء قصيدة النثر في ما يكتبون من نقد أو تعليقات، أو في ما ينشر لهم من مقابلات، هو الذي يترابط ويشكل نسقاً واضح المعالم أو إطارا نظرياً متماسكاً. هذا يدفعني إلى القول إن قصيدة النثر العربية هي مزاج أوفضاء نقدي للبحث في الكتابة الشعرية أو عنها. وأصر على صفة «نقدي» هنا لأنني أعتقد بأن كتّاب قصيدة النثر العربية، أصحاب المشاريع الواضحة على الأقل، معنيون بها جوهرياً كطرح نقدي أو كاحتمال شعري، ويتفادون وصفها أو تعريفها بشكل نهائي. فها هو عباس بيضون يقول لي عندما سألته: ما قصيدة النثر؟:
«قصيدة النثر ليست شعراً ولا نثراً. قصيدة النثرهي بين الشعر وبين النثر،هي نص يفجّر شعرية النثر، هي شعر بالمعنى المجازي. عملها أو شاغلها هو الكشف عن شاعرية اللغة أو اكتشاف شاعرية الحياة. أميل إلى عدم تسميتها شعرا. الشعر بالنسبة إلي هو الموزون. أما قصيدة النثر فسواه».
«قصيدة النثر شعر بالمعنى المجازي» يقول بيضون. هذه عبارة تفتح باب التنظير للشعر والنثر والمجاز على مصراعيه. يستنتج من كلام بيضون أن قصيدة النثر ليست شيئا بقدر ما هي بحث عن شيء، ليست نوعا بقدر ما هي بحث في الأنواع، ليست شعرا بقدر ما هي مساءلة للشعر.
التنظير
من الجلي أن البعد التنظيري لا يرافق كتابة قصيدة النثر العربية فحسب، بل هو عنصر أساسي يدخل في صلبها. وهذه ميزة في قصيدة النثر العربية أكثر مما هي في قصائد النثر في اللغات الأخرى، وذلك لأنها لا بد أن تقرأ وتكتب وتتلقى على خلفية مواقفَ معينة من التراث الشعري العربي وأصواته. حتى لو رفض شعراء قصيدة النثر العلاقة بالتراث أو الحوار معه، فهو حاضر في اللغة العربية وفي ذاكرتها الشعرية. وهذه الهوة الكبيرة بين ما اتفق على تسميته شعراً في التراث العربي، وبين هذا الذي يقدم نفسه الآن على أنه شعر، هي ما تبحث فيه قصيدة النثر. هذه الهوة هي فضاؤها ومادتها ومسوغها.
لذلك يبدو لي أن البعد النظري لقصيدة النثر هو أكثر أبعادها وضوحاً وتبلوراً. لهذا السبب نلاحظ أن كتّابها يظهرون أكثر تماسكاً وتركيزاً في حديثهم عنها مما هم في كتابتها. ويدل ذلك على أن التنظير هذا قد يكون من أهم شروطها وعناصرها. فقارئ قصيدة النثر العربية (سواء كان من مؤيديها أو مهاجميها) متورط مسبقاً في جدل نظري أساسه بحث في ماهية الشعر بشكل عام وفي طبيعة الشعر العربي بشكل خاص. فقصائد النثر العربية تعتمد على الإشكالية التي تخلقها في المستوى النظري أو النقدي، وهي مهما تتعدد موضوعاتها أو مضامينها أو صياغاتها فإنها في آخر الأمر بيانات شعرية أو استطرادات نقدية.
شعرية قصائد النثر العربية شعرية تحدٍ قائمة على «فرضية الشعر». فكل قصيدة ترمي إلى التأكيد على أنها شعر على الرغم من كل ما لا يشبه الشعر فيها، أي ما لا يشبه الشعر كما اعتادت عليه اللغة العربية. وهذا يتجلى في سعي كتابها إلى التكثيف والصدم والعبثية التي يحب بعضهم تسميتها مجانية أو لا غرضية. واللاغرضية هذه في كونها تخلياً عن كل مرجعية خارج النص لا تترك مجالاً إلا للتساؤل حول طبيعة النص نفسه وللبحث في ما يجعله شعراً. كأن يقول عباس بيضون مثلا في قصيدة نثر عنوانها «أحلام وبطاطا»:
يضعون الأسماك في الموقد. يخرجون الأحلام من الأرض. هنا حيث شعوب ضيعت البئر وتاهت أخرى خلف الطيور. نبشنا أحلاما وبطاطا وقطفنا أسماكا حية. أكلنا أسرارا كثيرة وعددا أكبر من الينابيع وقبل أن ينشق منا ذلك الهرم، لا نبالي بالأرض التي طارت من أعيننا.
أوضح معلم من معالم هذا النص يقع خارجه بل هو سابق عليه وهو فرضية أنه شعر. في هذه الفرضية التي يقدمها الشاعر ويشرك أو يورط فيها قارئه يكمن لغز هذا النص أو سره. في نص آخر يعطيه شوقي أبي شقرا عنوان «قصيدة» يقول:
عقصة الأيام
سراج الليل يموتُ
تذبلُ العينان
وحبة البارودة تزوغ
أين أغصان الطيور، رؤوس
الوعول، غيمات القديسين
أنزل الضابط كتف الجرة
لف الندى بنات العين
هيكل يدلف من العظام
تمتلئ جورة الزمور
والريح تغلق البار.
كما في نص عباس بيضون، اللحظتان الأبلغ في النص هما لحظة ٌ قبل البدء بقراءته ، حين نوضع كقرّاء أمام فرضية الشعر، ولحظة ٌ بعد الانتهاء من هذه القراءة. هما اللحظتان اللتان نملك ما نقوله فيهما: ما توقعنا من النص على فرضية أنه شعر وما وجدنا منه بالفعل. لذلك يبدو أن قصيدة النثر مصطلح لا يشير إلى فئة من النصوص بقدر ما هو إشارة إلى مجموعة من الأسئلة التي تحاول أن تسوغ تلك النصوص وتجعل منها بحثاً نظرياً (أو ممارسة نقدية) في الدرجة الأولى.
من المناسب في هذا السياق، سياق الحديث عن النقد والتنظير الذي يشغل شعراء قصيدة النثر، من المناسب التوقف قليلاً عند كتاب عبد القادر الجنابي الذي صدر مؤخراً بعنوان «ديوان إلى الأبد: قصيدة النثر ـ أنطولوجيا عالمية». يقدم الجنابي في الكتاب مجموعة من النصوص التي اختارها وقام بنفسه بترجمة جزء كبير منها من لغاتها الأصلية. كما أنه كتب لها مقدمة وألحق بها ثلاثة بيانات: بيان في قصيدة النثر لبودلير، وآخر لماكس جاكوب، وثالث للجنابي نفسه بعنوان «من قصيدة حرة مشطرة إلى قصيدة نثر».
وعلى الرغم من أن الأنطولوجيا عالمية، ومن أن الجهد الذي بذله الجنابي فيها جمعاً واختياراً وترجمة مثير للإعجاب، فأنه من الواضح أن لهذا العمل غاية تصحيحية موجهة بشكل خاص إلى كتّاب قصيدة النثرالعربية. ويبدو ذلك جلياً في القسم الأول من المقدمة حيث يعلن الجنابي في سياق تعريفه لقصيدة النثر الحكم الآتي:
«نعود إلى سؤالنا: ما هي قصيدة النثر؟ إنها كل هذا وليس. لكن الشيء المؤكد هو أنها نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبي مطلباً واحداً مما اتفق جلّ النقاد عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر».
وتعريف الجنابي لقصيدة النثر، الذي أمِلتُ أن أجد فيه ما يبدد بعض الفوضى من الكلام النقدي حول قصيدة النثر، يمكن تلخيصه بالنقاط الآتية:
1 ـ ليس من ماض لقصيدة النثر في النثر الفرنسي ولا في غيره. وبودلير هو أول من أطلقها كجنس أدبي قائم بذاته عندما ذكرها في إحدى رسائله ووصفها «بمعجزة نثر شعري».
2 ـ قصيدة النثر نص كتابي لا شفاهي. ليست كالشعر في علاقته بالموسيقى. كما أن غياب التشطير والتقطيع هو ميزتها الأساسية. قصيدة النثر كتلة مؤطرة.
3 ـ العنصر الثالث الأساسي الذي يمكّننا من التمييز بين قصيدة النثر وغيرها من الكتل النثرية هو اللاغرضية المجانية.
ويطمئننا الجنابي إلى أن هذه المجانية هي التي تحمي قصيدة النثر من الوقوع في متاهات النثر الشعري. أليس مقلقاً أن تكون اللاغرضية حبلَ النجاة الوحيد في هذه الرحلة نحو قصيدة النثر؟ أليس في ذلك تكليف لللاغرضية بغرض واضح ومهمة جوهرية؟
التشطير
يطرح الجنابي في مقدمته أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة. والنماذج التي تلي المقدمة والتي يتوسم القارئ منها ما يوضح الكلام النظري لا مجال للتعميم انطلاقاً منها. فهي نصوص مختلفة ومتفاوتة، ولو لم يقل لنا الجنابي مسبقاً إنها قصائد نثر حائزة على موافقة النقاد المتخصصين لما عرفنا أن هناك ما يجمع بينها. من الواضح أنها كلها كتل مؤطرة لا تشطير فيها ولا تقطيع. إذ يبدو أن هذه الميزة هي أوضح ما نستخلصه من مشروع الجنابي هذا. وهو يعود ليؤكد على أهمية هذه الفكرة فيقدم لنا في نهاية الكتاب عرضاً تطبيقياً يحوّل فيه قصيدة مشطرة حرة إلى قصيدة نثر بمجرد إعادة ترتيبها في جمل تشكل كتلة مؤطرة! وهذه بصراحة خلاصة مخيبة جدا. بعد ما جاء في المقدمة من التهويل والمبالغة في الحديث عن الثورة اللغوية والفكرية التي تمثلها قصيدة النثر، وعن «قوتها الفوضوية الهدامة التي تنفي كل الأشكال وقدرتها على جمع النقائض وبناء كل شعري»، لا يتمكن الجنابي من الامساك بأي من هذه الأفكار ولا الإشارة إليها داخل النصوص، فيكتفي بهذا الاستنتاج السطحي.
ما زلنا، حتى في هذا العمل الأنطولوجي، نتفادى النصوص ونكتفي بجعلها ملاحق أو هوامش للتنظير الذي يبقى هو الصوت الأساسي.
قضية أخرى أساسية يثيرها كتاب الجنابي هي قضية الترجمة. فمن المثير للانتباه أن قارئ الأنطولوجيا لايشعر بفوارق بين النصوص العربية والنصوص المترجمة. وسبب هذا لا يعود إلى أن النصوص الأجنية ترجمت بحس شعري عربي، بل إلى أن النصوص العربية تبدو وكأنها مترجمة. فلو لم ننتبه إلى أسماء الشعراء لكان من السهل أن نظن أن كل المجلد مجموعة من النصوص المترجمة.
في هذا دلالة بالغة الأهمية تتعلق بقصيدة النثر العربية نفسها، كما تتعلق أيضا بمقاربة القارئ لها وتعامل الناقد معها. شعرية قصيدة النثر شعرية مفترضة كما هي شعرية النص الشعري المترجم. مهما يكن النص فائق الشعرية في أصله، علينا عندما نتعامل معه مترجماً أن نفترض شعريته الضائعة. وكذلك قصيدة النثر، نفترض أن لها موسيقى، وأن اللغة والزمن فيها هما غيرهما خارجها. نفترض أنها معجزة. ولكننا لا نتوقع من النص أن يثبت أياً من هذه الافتراضات، كما هي الحال إزاء النص المترجم الذي لا جدوى من الإمعان في مساءلته، لأنه مجرد إشارة أو أثر لنص شعري غائب.
يمكن لهاتين الميزتين في قصيدة النثر، أي البعد النظري والشعرية المفترضة، أن تكونا نقطتي قوة لا نقطتي ضعف. فهما ميزتان تشيران إلى أن مشروع قصيدة النثر يحمل إمكانية النفاذ إلى الأسرار اللغوية للشعر. قصيدة النثر العربية تواجهنا بامكانية الشعر أو فرضيته خارج الأطر التي ألفناها. إنها تمتحن قدرة الشاعر والقارئ على حد سواء. فهي تتحدى وتزعج أحياناً لأنها تحث الشاعر والقارئ معا على البحث عن الشعر خارج القوالب المألوفة.
السفير