حوار الذال والزاي

أ. هادي حسن حمودي

 كتب لي المفكر والأديب حسن صابر متسائلا عن قواعد التسمية ذاكرا أمثلة كـ(زكي) و(ذكي) وكانت خلاصة رأيه (لا توجد قاعدة لغوية في كتابة الأسماء، فهناك من يحب أن ينسب زكي إلى الرائحة الطيبة، وآخر يحب أن ينسب ذكي إلى الذكاء، ولا خطأ في كتابة الاسمين. لكن يكون الخطأ إذا كتب أحدٌ جملة قال فيها: إن رائحة الورد ذكية، فالصحيح هنا أن رائحة الورد زكية أو أن يكتب آخر: مستوى الزكاء منخفض. والصحيح أن يكتب: مستوى الذكاء منخفض. أرجو أن تصحح لي لو كنت مخطئاً).

واعتمادا على الأصل اللغوي للفظتين فرأي صابر رأي صحيح سليم. ولكننا نلاحظ أن كثيرا من الناس صاروا يكتبون: رائحة ذكية. وهم يريدون (زكية) فإن أرادوا (ذكية) حقا وحقيقة فتلك مصيبة سنبينها. وقد كثرت الكتابات التي تحول الذال فيها إلى زاي وبالعكس.
ولقد قرأت في إحدى روايات نجيب محفوظ (وكان للطعام في فمه لزة) ولا أعتقد أن نجيب محفوظ يمكن أن يقع في هذه الزلّة (ولا أقول الذلّة) وأعتقد أن مرجع الأمر إلى الراقن (الطابع للنص).
ونرى أن مرد هذا الخطأ الكتابي إلى اللفظ نفسه، فلو ألزم الناس أنفسَهم بأن يلفظوا الزاي زايا والذال ذالا والظاء ظاء لما وقعوا في الخطأ الكتابي. فكيف تحولت الرائحة (الزكية) إلى رائحة (ذكيّة) مثلا؟ وإذا شاعت كتابة (رائحة ذكية) بدلا من (رائحة زكية) فهل من المحتمل أنهم، سيقولون يوما ما: رائحة زكية (في ذكية هذه)، وتستمر لعبة تغيير حروف لا يجوز تغييرها؟ الإجابة تلزمنا النظر في عدة ملاحظات، منها:
الملاحظة الأولى: إن اللفظتين تشتركان بحرفين، ويتغير فيهما حرف واحد هو الذي غيّر المعنى، ولكن في إطار قريب. ذلك أنّ كل حرف في اللغة له معنى، يلتقي مع معاني الحروف الأخرى ليتشكل المعنى الأساس للفظ. وقد قرر صاحب كتاب الخصائص (القرن الرابع للهجرة) شيئا دالا على ذلك، ومثّل له باللفظ (قط) الذي منه (قطع، وقطف) مثلا. فحين تقول لتلميذك (قُطَّ قلمك) لا تقصد منه أن يقطعه. هو يبري القلم، يقطع منه شيئا بكيفية معينة. أما في قولك (قطع الجلاد رأس الضحية) فهو القطع البات المعروف، وهذا يختلف عن (قطف الزهور أو الثمار الناضجة). القطف أهون من القطع وأسهل وأيسر وأسرع. ومنه في التنزيل العزيز: «في جنة عالية. قطوفها دانية» ومن (قطع) على لسان فرعون قال: «لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف». هناك قطف سهل ميسور، وهنا قطع قاس عنيف. ولضرورات بيانية قد يستعمل لفظ موضع آخر بحسب السياق.
الملاحظة الثانية: الذكاء من الجذر اللغوي (ذكا) الدالّ على الحدّة في الشيء. ومنه: ذكّيتُ الذبيحة: فأنت تذبحها. وذكّيت النار: أوقدتها متلهبة وأثرتها بقوة وكثرة حطب. وأذكيت الحرب أثرتها بقوة وشمول.
فأما الذكاء فإنه توقّد الفكر، واستيعابه الشامل لجزئيات موضوع البحث أو الكلام وكلياته. وكذلك الفطنة السريعة إلى ما يدور حول المرء، لذلك يقال: هو ذكيّ، متوقد الذكاء.
الملاحظة الثالثة: الزكاء (بالزاي) النّماء والزيادة. ومنه (الزكاة). وسميت بذلك لأنها تنمية للمال المزكّى. ورجل زُكأة (بالهمز): موسِرٌ كثير المال. ولا يشمل ذلك كل زيادة، بل هي مقصورة على الخير والطيب. فإذا سميت ابنك بـ(زكيّ) فأنت تريده طيبا زائد الخير، طاهرا. وإذا سميته بـ(ذكي) فأنت تريد زيادة الذكاء بخاصة.
ونظرا لاشتراك اللفظين بحرفين، ففيهما معنى الزيادة. ولكن مع اختلاف بينهما، فـ(زكا) خاص بزيادة في الطيب والخير، وليس ذلك شرطا في (ذكا). وثمة من أطلق (ذكا) على كل مجاوز للحد ومنه الرائحة، سواء كانت طيبة أم خبيثة. فـ(الرائحة الذكية) تحتمل المعنيين: شديدة الطيب، وشديدة النتن. فلنبعد عطر الأزهار عن روائح القذارة والنتن. ومن المعلوم أن (الذكاء) إذا وظف في الشر، انقلب إلى خبث.
أنقذكم الله وإيانا من الخبث والخبثاء.
قل: آمين… لعل وعسى.
 

القدس العربي