اللغة العربية والتواصل الحضاري

أ. أنور محمود زناتي

من المؤكد أن الحضارة الإسلامية (Islamic Civilization ) كان لها دورها الفعّال في التواصل بين الشعوب، وهذا الدور لم ينقطع على مرّ الزمن، ولكنه في العصر الوسيط (Medieval ) كان أكثر وأعرض وأعمق، وذلك بفضل ما توصلت إليه الحضارة الإسلامية من أسباب التقدم والرقيّ، وحتى العصر الحديث ما زالت هناك آثار لتلك الحضارة. ولعل أجلى ما تتضح عليه صورة ذلك الأثر هو اللغة العربية.

واللغة بصفة عامة تلعب دورًا هامًا في صياغة عقلية الفرد والمجتمع  وهو ما ذهب إليه إدوارد سابير (Edward Sapir) ([1 ])من أن: "اللغة تنظم تجربة المجتمع"، وهي التي تصوغ عالمه وواقعه الحقيقي، وأن: "كل لغة تنطوي على رؤية خاصة للعالم". وذهب سابير وورف إلى أن اللغة "أساس تشكيل الأفكار، ودليل على النشاط الفكري للفرد"، وإن الأمر ليتجاوز ذلك إلى المجتمع ذاته؛ إذ نجدها الأساس الذي تنبني عليه الهوية الاجتماعية علاوة على الهوية الفردية". (2).

وفي هذا المقال سوف نتعرض للألفاظ المشتركة بين اللغة العربية واللغات الأخرى والتي تؤكد دور الإسلام في إيجاد تواصل وتماذج بين الحضارات، وهذا التواصل سيؤدي إلى بناء علاقات حميمة وتفاعلات حضارية تقرّب بين الأطراف المختلفة.

ويتفق هذا البحث مع ما ذهبت إليه مينيكه شيبر (MinekeSchipper) (3 ) من تأكيد على أن الإنسانية تتكون من أقرباء لم يهتموا أبدًا بأن يلتقوا، وأن المعرفة المشتركة هي مفتاح مهم للتعايش السلمي على كل المستويات؛ فالنظر إلى ما نشترك فيه كآدميين مثمر تمامًا، وهو أكثر إلحاحًا اليوم عن أي وقت مضى. هذه نقطة انطلاق تتفوق كثيرًا على الإصرار الدائم على "نحن" في مقابل "هم"، على من ينتمي في مقابل من لا ينتمي، وفي أسوأ الأحوال، إسقاط محاور خطيرة للشر "بيننا" و "بينهم" "Us"  and "them" (4 ).

فاللغة لها خاصية إنسانية (Feature of human ) ترتبط بالإنسان دون الحيوان؛ ولذلك عدها (وليام ويتني) مؤسسة اجتماعية (5)، واللغة كائن حي، وكلّما اتسعت حضارة أمة، نهضت لغتها وسمت أساليبها، وتعدّدت فيها فنون القول، ودخلت فيها ألفاظ جديدة عن طريق الوضع، والاشتقاق والاقتباس أو الاقتراض للتعبير عن المسمّيات والأفكار الجديدة، فتحيا هذه اللغة، وتتطور عبر الزمن، وتتلاقح مع غيرها من اللغات.

ولا أحد منّا ينكر أنّ اللغات تتداخل وتتلاقح كلما اتصلت إحداها بالأخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأنّ أية لغة من اللغات في العالم كما تؤثر في غيرها، فإنها أيضًا تتأثر. وإنّه "من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من الاحتكاك بلغة أخرى" (6). ويرى عالم اللغة الفرنسي (جوزيف فندريس) أن تطور اللغة مستمر في معزل عن كلّ تأثير خارجي، يُعدّ أمرًا مثاليًّا لا يكاد يتحقق في أية لغة، بل على العكس من ذلك، فإنّ الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة لها، كثيرًا ما يؤدي دورًا هامًّا في التطور اللغوي، ذلك لأنّ احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، واحتكاكها يؤدي حتمًا إلى تداخلها (7).

يقول المستشرق إرنست رينان (Ernest Renan) (8 ) في كتابه تاريخ اللغات السامية (Histoire générale des languessémitiques ): "إن انتشار اللغة العربية ليعتبر من أغرب ما وقع في تاريخ البشر كما يُعتبر من أصعب الأمور التي استعصى حلها؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال سلسة غاية السلاسة، غنية أي غنى،... وإن اللغة العربية - ولا جدال - قد عمّت أجزاء كبرى من العالم".

ويقول جوستاف لوبون (Gustave Le Bon) (9 ) صاحب كتاب حضارة العرب (La civilisation des Arabes) (10 ): "كلما تعمّق المرء في دراسة العربية تجلّت له أمور جديدة، واتسعت أمامه الآفاق، وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلاّ بوساطة العرب، وأن العرب هم الذين مدّنوا أوروبا في المادة والعقل والخلق".

ويقول ديفيد صمويل مرجليوث (11) (Margoliouth ) الأستاذ بجامعة أوكسفورد: "أن اللغة العربية لاتزال حية حياة حقيقية، وهى واحدة من ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليه غيرها، الإنجليزية الإسبانية أختاها تخالف أختيها بأن زمان حدوثهما معروف، ولا يزيد سنهما على قرون معدودة، أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ".

ويقول الأستاذ ماكس فانتا جوا (Max Vintéjoux ) فى كتابه "المعجزة العربية" (Le miracle arabe ): "الحق أن مؤرخينا قد حاولوا جهدهم أن يجعلوا من العالم الغربي محورًا للتاريخ مع العلم بأن كل مراقب يدرك أن الشرق الأدنى هو المحور الحقيقي لتاريخ القرون الوسطى. إن تأثير اللغة العربية (Arabic influence ) قد شكّل تفكيرنا بصورة كبيرة" (12).

وقد لاحظ ذلك فيلسوف الحضارة أزوالد شبنجلر (13) (Oswald Spengler ) فى كتابه الشهير "سقوط الغرب"Downfall of the (Occident   قائلاً: "لقد لعبت العربية دورًا أساسيًّا كوسيلة لنشر المعارف، وآلية التفكير خلال المرحلة التاريخية التى بدأت حين احتكر العرب على حساب اليونان Greek والرومان Romans عن طريق الهند، ثم انتهت حين خسروها" (14).

والاحتكاك المباشر وغير المباشر بين الشعوب ولغاتها أدّى إلى انتقال مفردات اللغة العربيةِ( Arabic vocabulary ) إلى اللغات الأخرى (other languages ). كالإسبانية Spanish والإيطالية Italian ، واليونانية Greek والتركية Turkish والفارسية والإنجليزية والفرنسية.. الخ (15).

ونتيجة للتعايش (Coexistence ) بين اللغات يقع التأثير والتأثر بين فيما بينها ويتمثل في اقتراض الألفاظ (Borrowing words )، فيتسع محل اللغة وتتطور وتزداد حيويتها، وتلك سنة اللغات حين التعايش والاحتكاك

(Coexistence and friction ) والتجاور (Dialogue ). ونجد اللغة العربية كغيرها من اللغات في العالم عبر التاريخ تداخلت مع اللغات الأخرى حين احتكت، واتصلت بالأمم المجاورة بسبب الحروب والمعاملات التجارية والثقافية، فأثّرت وتأثّرت حسب قانون التجاور والتواصل الحضاري (16).

وقد أدّى التواصل الحضاري واللغوي (Cultural communication and linguistic )  إلى دخول الآلاف من الكلمات العربية إلى اللغات الأجنبية، وتنوعت تلك الألفاظ ما بين علمية وأدبية وحياتية تتعلق بأمور المعيشة، بل والمصطلحات العلمية أيضًا، وقد ذكر ابن سينا الكثير من العقاقير التي دخلت في علم النبات، وعلم الصيدلة عند الأوروبيين، وظل الكثير منها بأسمائها العربية في اللغات الأجنبية كعنبر (Ambra )، والزعفران (Safaran ) والكافور (Kampfer )، والتمر الهندي(Tamar inda ) وعود الند(Aloe )  والحشيش (Haschisch ) والمسك (Muskat ) والصندل (Sandelholz ) وغيرها.. ويكفي العرب فخرًا ما بقي من الأسماء الطبية في اللغات الغربية كالكحول والصداع (Soda )، وقد سجّل الأستاذ ويسلر في كتابه "الحضارة العربية" الكلمات العربية التي دخلت اللغات الأجنبية (17).

وتطلق الأرقام العربية (Arabic numerals ) على الرموز الكتابية التي تمثل الأعداد وتكتب على النحو الآتي:1-2-3-4-5-6-7-8-9-0، وذلك في مقابل الأرقام الرومانية التي كانت مستعملة من قبل مثل  I.V.X.D.M ..  والغريب هو أن تعترف القواميس الغربية بأن الرموز الرقمية المستعملة في أوروبا وأكثرية بلدان العالم هي أرقام عربية، وأن يعتقد الكثيرون من العرب اليوم أنها أرقام غربية إفرنجية.

وقد نُقلت كلمة "صفر" العربية والصفر هو الخالي أو الخلوى، إلى اللاتينية هكذا: ( Cifra Cifrum ) بمعنى "الصفر"، ثم أُطلقت من بعد على العدد عامة، كما نجد في اللغات الأوروبية: (chiffre ) في الفرنسية و(cifra ) الأسبانية. ومنها أخذت كلمة "السفرة" في الدبلوماسية أي اللغة الرمزية؛ لأنها تقوم على أرقام (18).

ويتضح أثر العرب على حياة الغرب الحضارية حتى في أسماء الأيام Names of days التي يستعملونها فلو عدنا إلى أصلها لما بعدت الحقيقة عن أنهم أول من فكّر فيها؛ فقد جاء عن إخوان الصفا (19).

"اعلمْ أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومة بين الكواكب السيارة، فأول ساعة من يوم الأحد للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء للمريخ، وأول ساعة من يوم الأربعاء، لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس للمشتري، وأول ساعة من يوم الجمعة للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت لزحل"20). ودعنا نبحث عن أسماء الأيام باللغتين الانجليزية والفرنسية، فستكون النتيجة مطابقة لا مثيل لها أُخذت من حسابات العرب والمسلمين وحضارتهم، فالأيام: الأحد Sunday والاثنين Monday ، الثلاثاءTuesday ، الأربعاءWednesday ، الخميسThursday ، الجمعة Friday ، السبتSaturday ؛ فالأحد يوم الشمس والاثنين يوم القمر والثلاثاء يوم تموز وهو آلهة الرعد قديمًا والجمعة يوم الآلهة في Friy زوجة عطارد وتشبه الزهرة في صفاتها وزحل للسبت، أما في الفرنسية فإن Mardi هو مارس المريخ ليوم الثلاثاء، وMardi الأربعاء يوم عطارد، و Mercridi ليوم الخميس المشتري، Jeudi   يوم الجمعة وهو يوم الزهرة، فإذا كانت الحضارة الغربية بحاجة إلى الاستعانة وبالأسماء العربية، وأخذتها من الحضارة الإسلامية فكيف ينكر أثرها الواضح».

وتحفل لغات أوروبية عديدة بكلمات وعبارات استعارتها من اللغة العربية، وبما أن الأفكار والمفاهيم تتخذ شكلها في صورة كلمات، فإن الدَّين الثقافي الذي يدين به الغربيون للحضارة العربية الإسلامية ينعكس في الكلمات المستعارة من اللغة العربية والتي يستخدمها المثقفون والمتعلمون من الغربيين في لغاتهم حتى يومنا هذا؛ فإذا أخذنا على سبيل المثال كلمة سراط، فهي strada ،street ، strase ، هذه كلمات مشتركة لها أساس في اللغة العربية وهي فعل سار – سيرا  العربي. وإذا أخذنا كلمة سطر، أسطورة، تبين لنا أنها امتدت في العديد من اللغات بشكل History ، فإما أن تكون هذه الأفعال العربية مشتقة من هذه الأسماء المشتركة التي تدل على معناها، وهذا بعيد عن المنطق السليم، و إما أن هذه الأسماء مشتقة من هذه الأفعال العربية، وهذا أقرب إلى المنطق السليم.

وكلمة Safari في اللغات الأوروبية والتي تعني الرحلة وخاصة رحلات القنص، مأخوذة من الكلمة العربية سفري نسبه إلى سفر. وكلمة Racket وكلمة raquette مضرب التنس، مأخوذة من العربية راحة نسبة إلى راحة اليد كلمة  Magazine معناها إما مجلة او مخزن للذخيرة أو البضائع، وهي أصلاً من الكلمه عربية مخزن.  وكلمة  Amber بمعنى الكهرمان، أصلها عربي وهي عنبر. وكلمة Admiral من العربية أمير البحر، وكلمة Alcove    من العربية القبة، وكلمة Algebra   من العربية الجبر، وكلمة Apricot من العربية البرقوق، وكلمة Arsenal من العربية دار الصناعة وكلمة Cumin من العربية كمون، وكلمة Gazelle من العربية غزال، وكلمة Genie   من العربية جنّي، وكلمة Lute من العربية العود، وكلمة Tariff   من العربية تعريفة، وكلمة Typhoon من العربية طوفان.

ونلاحظ التناغم العجيب، ونتخيّل معًا مدى التقارب بين كلمة عربية، وهي كلمة رفض نجدها في الإيطالية Rifiuto والفرنسية  ريفوز refuser ، وأخرى إنكليزية  REFUSE . يحملنا ذلك على ضرورة إدراك القواسم المشتركة بين كل اللغات ودلالتها الحضارية.

ويُعدّ انتشار الكلمات العربية داخل اللغة الإسبانية دليل على عمق التأثير العربي والإسلامي الذي يظل حتى يومنا هذا شاهدًا على حضارة أسّسها العرب في شبه الجزيرة الإيبيرية (Iberian Peninsula) (21 ). فمع الفتح الإسلامي للأندلس (22) فتحت صفحة لالتقاء ثقافتين ثقافتين هما العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية، اتصلتا وتفاعلتا فتعرّضتا للتأثير المتبادل عبر عصور التعايش المشترك(23).

وقد لاحظ المستعرب الإسباني (Arabista español ) خوان برنيط (Juan-Vernet ) في كتابه "المسلمون الإسبان"

( LOS MUSULMANES ESPAÑOLES ) إنه من العسير جدًا أن نحدد مدى التأثير الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، ذلك أن الأندلس كانت دائمًا هدفًا للهجرات الشرقية مما يكون له أثره فيما قبل الإسلام بكثير على أن هناك أشياء ماثلة لا يمكن الشك في أنها إسلامية، وذلك ما هو موجود في اللغة من ألفاظ وتعبيرات(24).

أما عن تأثير اللغة العربية في اللغة الإيطالية، فيقول رينالدي: "لقد ترك المسلمون عددًا عظيمًا من كلماتهم في اللغة الصقلية والإيطالية، وانتقل كثير من الكلمات الصقلية التي من أصل عربي إلى اللغة الإيطالية ثم تداخلت في اللغة العربية الفصحى، ولم تكن الكلمات فقط هي التي دخلت إيطاليا، وإنما تسرّبت أيضًا بعض جداول من الدم العربي في الجالية العربية التي نقلها معه إلى مدينة لوشيرا، الملك فريدريك الثاني... ولا يزال الجزء الأعظم من الكلمات العربية الباقية في لغتنا الإيطالية التي تفوق الحصر دخلت اللغة بطريق المدنية لا بطريق الاستعمار... إن وجود هذه الكلمات في اللغة الإيطالية، يشهد بما كان للمدنية العربية من نفوذ عظيم في العالم المسيحي".

ومن أمثلة الكلمات العربية التي دخلت الايطالية كلمة قالب العربية (25) نجدها في الإيطالية calibro ، وكلمة مرتبة materasso   بمعنى فراش (26) وكلمة الكحول العربية نجدها في الإيطالية alcol ، وكلمة  chitarra من العربية قيثار، وكلمة طرمبة العربية: Trmbp ، وتعني مضخة المياه، وكلمة مملوك العربية نجدها في الإيطالية mamelucco ، وسلطان sultano ، وزرافة giraffa ،  وقيراط carato .

هذا الزخم إن دل على شيء فإنما يدلّ على عمق التواصل الحضاري بين شعوب الأرض قاطبة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المركز العالمي للوسطية