ماذا يراد باللغة العربية في العراق واليمن؟

أ. علي محمد الغريب

 (قال البصريون، قال الكوفيون، قال البغداديون). مهما كان تخصصك، ومهما كانت اهتماماتك، فلابد أنك سمعت هذه الكلمات ذات مرة، وسمعت أن العراق كان حاضرة اللغة العربية، ففيه نشأت أكبر المدارس النحوية والأدبية، ومنه خرجت المعاجم اللغوية التي أنارت دروب الباحثين والفقهاء، وفيه تمت ترجمة آداب وثقافات الأمم الأخرى؛ ومنه خرج كتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه ابن المقفع بعدما صارت نسخته العربية هي النسخة المعتمدة عالميا، بعدما فُقدت نسخته الأصلية المكتوبة باللغة البهلوية!

والآن يتعرض العراق الذي كان وعاء حاضنا للغة العربية، وذاكرة الأمة وذوقها ووجدانها، إلى هزة عنيفة وهي توابع صدور قانون يسمح للقوميات الأخرى والأقليات العرقية باستخدام لغتها الأم في التعليم وفي مجالات شتى بعدما كانت العربية هي اللغة السائدة في كل المجالات وبتوجيه رسمي حكومي.
 
القانون صدر قبل عامين. تحديدا في يناير 2014م وينص على اعتبار اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان في العراق، أقره البرلمان العراقي، وتم نشره في حينه في صحيفة الوقائع العراقية، وهي صحيفة معنية بنشر القرارات الرسمية في البلاد.
والآن يعاد الحديث عن القانون إعلاميا بشكل مكثف؛ بل واعتباره إطاحة باللغة العربية من عرشها، لأنه سمح للقوميات الأخرى والأقليات العرقية والدينية باستخدام لغتها الأم في التعليم وفي مجالات شتى!
 
 ورغم أن القانون نص على اللغة الكردية فقط، إلا أن التسويق له الآن يقول: إنه سمح للأقليات العرقية والدينية والقوميات الأخرى، فهل هو تبشير باللغة الفارسية في العراق(!!) خصوصا وأن الطرح الإعلامي الذي يروج لهذه الحملة لا يركز على العراق وحده، وإنما يضم إليه اليمن، بفتح الحديث عن اللغة الأمهرية، واللغة السقرطية وإعادة إحيائها في اليمن!
 
ولا يكتفي الطرح الإعلامي باقتصاره على اللغات التي لها جذور تاريخية في اليمن؛ بل يلقي في الإدراك العام تذمر اليمنيين السُنة من سيطرة لهجة اليمنيين الشيعة على الأعمال الدرامية، وهي إشارات وإن جاءت على شكل ومضات خاطفة تحت ستار كثيف من الحديث عن اللغات المندثرة والأمم السابقة، إلا أنها تمهد لأمر لا يخفى على المراقب الحصيف.
 
وإذا كان للعراق دوره البارز في نشر اللغة العربية والحفاظ عليها؛ فإن اليمن ـ كما الشام ـ هو مهد اللغة ويؤرخ علماء اللغة لنشأتها بحسب النقوش اليمنية القديمة بأربع مجموعات تمثل كل مجموعة منها لهجة من اللهجات اليمن القديم الرئيسية وهي: السبئية، والمعينية، والقتبانية، والحضرمية (راجع مباحث في تاريخ اللغة العربية د. إبراهيم الصلوي).
 
إن المساس باللغة العربية في العراق واليمن هو مساس مباشر بهوية الأمة، وإن الأمة ـ كل أمة ـ بخير ما دامت هويتها في عافية، وذاكرتها حية نشطة؛ فكتب التاريخ تنقل لنا أن روما احتلت أثينا عسكريا، لكن أثينا احتلتها ثقافيا وفكريا؛ فالسيطرة على الأرض والحجارة ممكنة، لكن السيطرة على الهوية الحية مستحيلة أو شبه مستحيلة في أضعف الأحوال.
 
وفي هذا المقام نذكّر بما بذله علماء العراق في جمع اللغة وتصنيف المعاجم، حيث تروى كتب التراث أن أبا الأسود الدؤلي كان أول من أدرك الخطر على اللسان العربي، حين ذهب إلى أمير البصرة وقال له: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال الأمير لا تفعل. وبعد فترة جاء رجل إلى الأمير وقال له: توفي أبانا وترك بنون. فقال الأمير متهكما: توفي أبانا وترك بنون؟ فدعا أبا الأسود الدؤلي وقال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه.  
 
ولم يكن أبو الأسود وحده من استشعر الخطر على اللغة العربية؛ إذ نهض جمع من العلماء يجمعون مفردات اللغة من مصادرها الأصلية من البادية، وكانوا يختبرون الأعراب قبل النقل عنهم، وكان العالم منهم يعتز كل الاعتزاز بأنه قد قضى سنين طويلة من عمره في البادية، ويروى أن النضر بن شميل كان يقول: أقمت في البادية أربعين سنة، وكان البصريون يفخرون على الكوفيين بقولهم: "أخذنا اللغة من حَرَشَةِ الضِّباب، وأكلة اليرابيع وأخذوها من أهل السواد وأكلة الشواريز وباعة الكواميخ"، والشواريز هي اللّبن الرائب المصفَّى، والكواميخ هز المخلل الذي يُشهِّي الطعام.
 
هذه أمثلة على ما بذله العلماء من جهود لتصل للغة إلينا صافية نقية، وقبل ذلك كله فهي محفوظة في وعائها الرئيس القرآن الكريم، لكن الغيرة على لغتنا وهويتنا وديننا تقتضى أن نتأمل فيما حولنا، وأن ندرك أن المعركة شاملة، منها ما يستهدف البنيان ومنها ما يستهدف الإنسان، وأن الأمة ستبقى بخير ما اعتزت بكتاب ربها، وجهرت بالدفاع عن لغتها، ودافعت عن ميراث الآباء والأجداد.
 

لها